رأى

الحنين إلى الماضى

استمع الي المقالة

بقلم: محمد محسوب

سنين طويلة من الرحلة مضت، نسيت وتناسيت الكثير من الأحداث التي مررت بها ، أشعر وأنني مازلت ذلك الطفل الصغير .. لا زلت انتظرني.. اشتقت جدا إلي .. وإلى أحاديثي وهمومي الصغيرة.. وأمنياتي الكبيرة.. أفتقدني منذ أن كبرت!”هل أشعر بالحنين إلى الأشخاص الذين غيبهم الموت عن عالمنا؟ أم إلى أيام الطفولة البريئة و أصدقاء الزمن الجميل، هل أرغب في العودة إلى العلاقات الاجتماعية القوية والحياة البسيطة؟

يا إلهي .. لماذا نشعر بالحنين إلى الماضي؟! إلى ما كانت عليه أنفسنا .. أشكالنا وملامحنا .. لماذا نتذكر دائما أعمارنا وأحلامنا التي طوتها دفاتر الأيام. هل هو الحنين حقا إلى الماضي أم إنه الخوف من سرعة مرور الأيام والأحداث، و الرغبة في العودة إلى هذه الأزمنة والأماكن والمراحل فنعيشها كما يجب أن تكون .. نعيشها بعد أن أرشدتنا خبرة السنوات إلى الطريقة التي كان ينبغي علينا أن نعيش ماضينا بها، ما الذي يجعلنا نشعر بجماليات الأشياء بعد انقضائها أكثر من استشعارها أثناء اللحظة وفي زمانها ومكانها؟

على عكس ما نعتقد فإن ذاكرتنا ليست شريط فيديو مصور يسجل كل الأحداث بدقة، فتقييمنا إلى الماضي يختلف من شخص إلى آخر، فالبعض قد يراه جميلا خاليا من الأخطاء والسقطات، والبعض الآخر يتذوق في استرجاعه مرارة الألم والحرمان، وبالتالي فإن تقييمنا يختلف وفقا وتجاربنا الشخصية، إلا أنني أعتقد أننا نمارس في استرجاعنا لأحداث الماضي بعض الأخطاء ك(الانتقائية) وهي أن نقوم بانتقاء الذكريات والفترات الإيجابيات ونتجاهل الفترات الأخري أو أننا نتذكر كل التفاصيل أو لا شيء منها، أو استيعاب شيئ وتصويره اعتمادا على جزء منه وإهمال الباقي ، أو (العاطفية) وهي أن نقوم بتفسير الأمور وفقا لما نريد ويجلب لنا معه الراحة النفسية.

لعل أن الماضي وما كان به من بطء في سنة التغير خاصة في المظاهر الاجتماعية أتاحت للناس معالجة المشكلات بسهولة مقارنة بحجم التغيرات المتسارعة في عصرنا الحالي والذي نجم عنها ظاهرة الاغتراب النفسي وصعوبة التكيف خاصة لدى كبار السن ، فمن منا لا يشعر بالحنين لأماكن لم يزرها أو ظروف وأحداث لم يعشها، فقط لأننا شاهدناها في فيلم قديم، أو عايشناها من خلال سماع أغنية أو رواية طويلة جسدت آمالنا وأحلامنا، اعتقد أن النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) هي آلية دفاع ابتكرها العقل لتحسين الحالة النفسية ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف مع الواقع أو هربا من الشعور بالوحدة، الحنين إلى الماضي بتفاصيله شيء جميل ويمدنا بسعادة وراحة، ولكن يكمن الخطورة في إدمان استرجاع ذكريات الماضي؛ وفي المبالغة باستخدام الحيل الدفاعية النفسية مثل ممارسة سلوكيات لا تتناسب مع العمر وأحلام اليقظة، والإنكار (مثل: إنكار موت عزيز أو إنكار التعرض لتجربة مريرة).

كثيرا ما نشعر بالأمان النفسي والراحة والاطمئنان بالعيش في الماضي الذي نألف أحداثه وأشخاصه، و قد نشعر بالخوف من المستقبل فنطلق عليه أحكاما خاطئة نتيجة تصورات ذهنية لحوادث مؤلمة لم تقع له وإنما وقعت لغيرنا؛ فنتصور أنه لا بد لذلك الحادث أن يصيبنا يوما ما. والغريب أننا قد لا نعيش اللحظة الراهنة بحلوها وتنسحب منا لحظات السعادة من غير أن نشعر بها، إن اعتماد الفرد على الوسائل النفسية الدفاعية للتخلص من التوتر والألم النفسي و البحث عن السعادة بشكل متكرر ودائم، يعيق نموه فيصبح الانسحاب من الحاضر أسلوب حياة، ويصبح الفرد عاجزا عن اتخاذ القرارات الصحيحة كلما واجهته تحديات، ربما حياتنا في الوقت الحاضر ليست جيدة بالقدر الكافي، لكن بإمكاننا العودة إلى ممارسة النشاطات التي لطالما أحببناها وفضلناها، وتوطيد العلاقات الاجتماعية التي بتنا نشكو ضعفها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى