بقلم: أحمد سلام
خبير بالشأن الصيني
بتاريخ ١٠ يونيه ٢٠٢٠، كتبت مقالًا يحمل عنوان ((الصين وأمريكا وفيروس كورونا)) جاء فيه.. “إذا كان هناك ثمة أخطاء قد وقعت في الصين، كما في كل دولة، في الاستجابة الأولية لفيروس كورونا، إلا أن استجابة الصين الشاملة – بشهادة دول العالم ومنظماته – كانت أكثر فعالية من معظم البلدان، مع تطبيق الحجر الصحي على المسافرين بين مدنها وفرض ارتداء الكمامات على نطاق واسع في البلاد، وانتهاج نظام الفحص والتتبع وجمع كم هائل من البيانات، الأمر الذي جعلها تنجح بدرجة كبيرة في السيطرة على المرض بوصولها إلى “صفر” إصابات ووفيات”.
تذكرت ما كتبته في مقالي أنف الذكر وأنا أتابع الأنباء التي أشارت في مارس وأبريل الماضيين، إلى عودة ظهور فيروس كورونا في بعض المقاطعات والمدن الصينية الكبرى، ولاسيما مقاطعة جيلين، ومدينة شانغهاي، بجانب العاصمة بكين، في ظل ارتفاع معدلات الإصابة اليومية بالفيروس. وهو ما مثل تحديًا لسياسة الصين في التعامل مع الوباء والتي ترتكز على (صفر إصابات كوفيد).
وفي مواجهة عودة ظهور فيروس كوفيد -19، أعلنت جمهورية الصين الشعبية في أبريل الماضي، حالة التأهب القصوي لمواجهة فيروس كورونا، حيث قامت السلطات الحكومية بفرض الإغلاق مع تشديد القيود على التحرك في بعض المدن، وذلك بغرض تطبيق استراتيجية الصين لتحقيق “صفر” إصابات بكوفيد، من خلال الإغلاق الصارم للحدود وفرض تدابير حجر صحي لفترات مطوّلة وإجراء فحوص سريعة وعلى نطاق واسع وإجراءات إغلاق مستهدفة. ولعل أهم المدن التي بدأت بها الحكومة في فرض القيود وتطبيق الإجراءات الاحترازية كانت مدينة شانغهاي (عاصمة المال والاقتصاد)، كما شملت الإجراءات أيضًا إعادة الإغلاق الكلي أو الجزئي في نحو ٢٢ مدينة صينية.
وقد شهدت مدينتا “شانغهاي وبكين” الإجراءات الأكثر حدة وصرامة، حيث تم تجهيز أكثر من ستين موقعًا للحجر الصحي في الملاعب الرياضية والفنادق والمعارض، وتم إنشاء ما يقرب من 40 ألف مستشفى طبي مؤقت، وحصل أكثر من ٥٠ مليون شخص على مسحة الفحص (بي سي أر) خلال شهري أبريل ومايو ٢٠٢٢.
وقامت مدينة بكين بإجراء فحوص واسعة النطاق لسكانها كل يوم تقريبًا منذ ارتفع عدد الإصابات. وصدرت توجيهات لملايين السكان في العاصمة بكين بالعمل عن بُعد من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتم تعليق خدمات النقل والمواصلات، وأخذت الحكومة على عاتقها توفير السلع والأطعمة وتوصيلها إلى السكان في أماكن إقامتهم وسط تخوف من تكرار الفوضى التي نجمت عن الإغلاق الذي شهدته شانغهاي.
وفي ضوء السيطرة بشكل فعال على كوفيد -19 في مدينة شانغهاي، فقد أعلنت السلطات المحلية في المدينة عن تخفيف إجراءات السيطرة على فيروس كورونا، من خلال تخفيف القيود على دخول أو مغادرة المجمعات السكنية واستئناف خدمات النقل العام وتخفيف القواعد المفروضة على السيارات الخاصة على الطرق، وذلك اعتبارًا من الأول من يونيه الجاري.
وفي حقيقة الأمر، فإنه لا تظهر أي مؤشرات على أن الصين تنوي التخلي عن معركتها للمحافظة على صفر إصابات بكوفيد، حيث يُعد نهج “صفر كوفيد” أفضل خيار للبلاد لتحقيق التوازن بين مكافحة الجائحة والتنمية الاقتصادية، ما يتطلب ضرورة الاستمرار في استخدام هذا النهج. وذلك رغم ما ترتب على قيام الحكومة الصينية بتطبيق إجراءات الإغلاق المشار إليها، لمواجهة عودة ظهور كوفيد -19، من انعكاسات وتأثيرات كبيرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الصين. والتي أكدتها الإحصاءات والأرقام المحلية والدولية. إذ تشير الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني في الصين، إلى أن الإغلاق الصارم في شانغهاي وحدها يمكن أن يقلل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للصين بنسبة 4% في حالة استمرار الإغلاق عدة شهور، ويرتفع الانكماش إلى 12% في حالة ما إذا شمل الإغلاق مدن بكين، قوانتشو، تيانجين.
وفي الوقت نفسه، خفضت وكالة “فيتش” للتصنيفات الائتمانية توقعاتها للنمو الاقتصادي للصين للعام ٢٠٢٢ بأكمله من 4.8% إلى 4.3%، وهو ما يعد نسبة بعيدة تمامًا عن الهدف الرسمي للحكومة الصينية البالغ 5.5%. وفي إشارة إلى أن اقتصاد الصين يشهد حالة ركود، تراجع المؤشر الرئيسي لنشاط قطاع الخدمات إلى 36.2 نقطة في أبريل الماضي ليبلغ ثاني أدنى مستوى له على الإطلاق.
وفي حقيقة الأمر، فإن معظم دول العالم منحت الأولوية في إجراءاتها للاقتصاد، وذلك بخلاف ما لجأت إليه الصين، التي جعلت من مكافحة الوباء والحفاظ علي صحة مواطنيها وسلامتهم أولوية قصوى، وهذا يعني اختلاف السياسات في مكافحة الوباء بين الدول وبعضها، إلا أننا في نهاية المطاف نعيش في قرية كونية صغيرة ونتاثر جميعًا بأي وباء أو جائحة.. ولا أقصد هنا أن تقوم كل دولة باتباع نفس سياسة الصين، فلكل دولة ظروفها الخاصة بها، ولكن الصين اختارت ما يتوافق وعدد سكانها الذى يصل إلى مليار وأربعمائة مليون نسمة، فهي اتبعت السياسة التي تتناسب معها، وبلا شك فاتصور أن الصين لديها استراتيجية خاصة في مكافحة العديد من الأوبئة مثل جدري القرود الذى بدأ يظهر مؤخراً وأيضاً مكافحة أمراض الكبد الوبائي وغيره الكثير ، ومن الهام جداً أن تستفيد جميع دول العالم من تجربة الصين في مكافحة الأوبئة والاستفادة مما وصلت إليه من نتائج على الأرض وما تكبدته من خسائر اقتصادية واجتماعية في هذا الإطار ـ نيابة عن دول العالم والتي مازالت تعاني من كوفيد -١٩ وتوابعه ـ ومن أجل الحفاظ على المواطن الصيني بل والعمل على إفادة العالم بنتائج هذه التجربة الصعبة.
وليس من شك أنه في مواجهة فيروس كوفيد المتحور بشكل مستمر، تتعلم الصين من الماضي وتحسن تدابيرها الوقائية، لوقف انتشار العدوى في أقصر وقت ممكن مع أقل تأثير على التنمية الاقتصادية.. وأكرر يجب أن تستفيد كافة دول العالم من تجارب الصين الناجحة .