رأى

حياة نفسية بأي ثمن – د. ابن الجنوى

استمع الي المقالة

هناء مهدي

ما هي الأسباب التي أخرت اكتشاف “النفس” كموضوع للتناول والمطارحة والتحليل؟ لماذا لم يظهر علم النفس الاضطرابي كعلم مستقل قائم بأركانه إلا في حدود القرن 19؟ ولماذا لم يتأسس التحليل النفسي كإطار نظري وممارسة تحليلية علاجية إلا مع سيجموند فرويد؟

هذه الأسئلة وغيرها يطرحها الأستاذ سعد ابن الجنوي في محاضرته الموسومة ب “حياة نفسية بأي ثمن” ضمن سلسلة محاضراته “الحياة النفسية تقديرات وآفاق تحليلية “.

 يفتتح الأستاذ ابن الجنوي محاضرته الأولى، بتقريب الحاضرين من موضوع الحياة النفسية، ويستحضر البدايات الأولى لتأصيل علم النفس، هذا العلم القديم/الحديث لم يشهد مخاضه كعلم مستقل قائم بذاته إلا في القرن 19، حيث سطع نجمه مع سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي (مابين 1893 و 1894) عند صدور أول كتاب له “دراسات في الهستيريا” الذي ألفه كل من سيغموند فرويد وجوزيف بروير.

لتقريب الحضور من الموضوع،استدعى الأستاذ المحاضر مشاهد من فيلم “The Tender Bar وهو فيلم بيوغرافي يوثق فيه الكاتب معاناته النفسية، التي تفرعت جذورها منذ الطفولة، تترجم المشاهد العلاقة القوية التي ربطت الطفل بجهاز الراديو، وبالضبط بالبرنامج الإذاعي الذي يقدمه والده المتخلي عنه، يتابع الطفل حلقات البرنامج باهتمام بالغ، ليقتنص لنفسه لحظات الحميمية المفقودة التي تتوق إليها نفسه مع الأب البعيد عنه. وهو ما سيرسخ للهشاشة النفسية التي ستعمر معه طيلة حياته، هذا الشعور بالتخلي سيُدَبِّج واقعه بالمرارة ويؤسس الجذور الأولى لبصمته النفسية المشوبة بالألم والمعاناة.

سيتكرر السيناريو نفسه مع كرونولوجيا الأحداث التي ستمر به، يعاود المشهد الأليم الظهور هذه المرة مع حبيبته التي لاتتوانى عن هجره من أجل رجال آخرين، بينما يظل هو متعلقا بها متشبتا بهذه العلاقة المشوبة بالهجر والتخلي والوجع..

يستمد التساؤل هنا شرعيته من غرابة الموقف، ويفتح الباب الموارب لعلامات الاستفهام. يتساءل الأستاذ ابن الجنوي بصفته محللا نفسيا عن سبب هذا التخلي المتكرر؟ عن المشهد الذي يكرر نفسه مع حبيبته هذه المرة؟ عن استماتته بهذه العلاقة المشوبة، وعجزه عن ترك خائته؟

يستحضر الأستاذ ابن الجنوي إجابات فرويد عن هذه التساؤلات في كتابه “ما فوق مبدإ اللذه” حين تناول آثار الصدمات وما بعدها، فبحسبه: الآلة النفسيه محكومه بمبدإ اللذة، وكل كينوناتنا سائرة نحو اللذة، محكومة بمبدإ السكينة، بمبدإ اللاحاجة، بمبدإ اللاإحباط ومبدإ اللامعاناه….

يعود الأستاذ المحاضر ليؤكد أن الجواب عن هذه التساؤلات لايمكن التماسه إلا بعد سبر أغوار النفس البشرية، ولن يتأتى فهمها إلا بتحري الأسباب البعيدة، والوقوف على تاريخ الفرد والأزمات التي مرت به منذ الطفولة، هكذا يمكن مساعدته للخروج من هذه الحالة، والتخلص آثار تلك الصدمات التي ستظل تحفر في أعماقه وتؤثر عليه وعلى علاقاته بمن حوله.

بعد هذا التقديم يدخل الأستاذ المحاضر في صلب موضوعه، ليقف عند التأصيل التاريخي لعلم النفس، هذا العلم الحديث هو متجذر في الحضارات الإنسانية الأولى. في الحضارات القديمة، والأنظمة القبلية البدائية، التي لم تخلُ من معالجة للنفس والروح والأمراض والاضطرابات النفسية.. يغوص الأستاذ ابن الجنوي في غياهب التاريخ ليوثق المعتقدات البدائية والتصورات القديمة للنفس البشرية، ليتساءل كيف كان الناس البدائيون يفهمون الأمراض والاضطرابات النفسية؟ كيف كانوا يتعاملون معها؟ وكيف كانوا يعالجونها؟ يؤكد ابن الجنوي أنه رغم الحقب التاريخية الطويلة التي مرت، فالأفكار والمعتقدات البدائية تجذرت في بعض الثقافات وامتدت عبر العصور ولم تبليها الأيام بعد.

 يمضي الأستاذ المحاضر في تناوله للموضوع ليؤكد أن الدراسات الإثنية والأنثروبولوجية منذ القرن 15 والقرن 16 م، درست المعتقدات القديمة، وعلاقة الكائن البدائي بذاته، وبما كان يقوم به، وكيف كان يعبر عن مايقع له؟

 قام الباحث الانجليزي “كليمانس” برصد بعض هذه المعتقدات بعد دراسته لعدة قارات ورتب النظريات التي توصل إليها إلى أربع نظريات تفسر المرض بالنسبه لهؤلاء. فنظرية “دخول الموضوع المرضي” تعني أن الاضطرابات عند هؤلاء البدائيين متأصلة عن أشياء دخيلة أوجسم غريب لا يفهم المريض أصله ولاسيروراته. هذا الاعتقاد يقوم على أن الشيء الدخيل الذي يقتحم الجسد والذي يمكن أن يكون حجارة أو عظما أو حيوانا يثير الكثير من الأمراض، ويمكن التخلص منه باجتثاته. ويتم علاج المريض عبر بعض الطقوس الاحتفالية، حيث يقوم المعالج بانتزاع الجسم الدخيل ويظهره للمريض، طبعا باستعمال بعض الخدع والحيل. فيتعافى المريض على يديه.

 يؤكد الأستاذ ابن الجنوي أن هذه العلاجات البدائية قد تشفي المريض وإن كانت لا تنبني على أي أساس علمي. لكنها تتأسس على نوع العلاقه التي تربط المعالج بمريضه، على نوع السلطة التي يستثمرها المعالج، وعلى درجة إيمان المريض بالشفاء. وهنا يستحضر العلاقة بين المعالج النفساني ومريضه، التي تقوم أيضا على مبدإ الإيمان بدور المعالج وقدراته على الإشفاء.

 يواصل الأستاذ محاضرته بطرح نظرية أخرى متجذرة في معتقدات كثير من الشعوب في العالم، وهي ما يسمى ب”فقدان الروح”؛ فالمرض يترتب عن فقدان الروح لأسباب شتى، لحادثه أو لصدمة قوية، أو لسرقتها من طرف ساحر. والأرواح تغادر الأجساد، وينبغي استرجاعها. والمعالج يتقصّى، عبر طقوس احتفالية معقدة، هذه الروح المفقودة، ويحضرها للمريض فيدمجها، ويُشفى المريض.

هذه المعتقدات، يوضح بن الجنوي، تطرح ثنائية الروح والجسد، وهي ما سيتم تنظيرها مع بعض الفلاسفة الإغريق والرومان الذي يفسرون هذا الاضطراب بالنزاع بين الروح والجسد؛ وهي بحسبهم، مس أو تلبس شيطاني، أي أن الكائن يتم امتلاكه من طرف كائنات أخرى ستدخل إلى بدنه وتخلق له حالة اضطراب ومرض. نجد مثل هذا التفسير عندنا في المغرب، فكثير من الاضطرابات النفسية يتم إرجاعها لمس جني، أو تفسيرها بعمل سحري.. والعلاج سيكون هو طرد الجني أو طرد الأرواح الشريرة ، كما هو الحال في العالم المسيحي، فسيستعيد المريض عافيته بالمعجزة.

تعرف هذه المعالجة نوعا من الاختلاف بين الأطباء، وأول الأطباء الفلاسفة الإغريق والرومان. فأفلاطون يؤكد أن الكائن الإنساني مكوّن من ثنائية الروح والجسد. والجسد هو قبر الروح، والروح تتوق للعودة إلى زيوس، كبير الآلهة في السماء، بينما الجسد يبحث عن رغبته في الأرض، فيبدأ الصراع بينهما ويبدأ المرض.

أما أرسطو فيعطي مفهوما آخرا للروح، فهي وظيفة الجسد، وكل تحركاتنا و إحساساتنا وانفعالاتنا لها وظيفة الروح. والجسد بدون روح لا يمكنه أن يكون.

  بالنسبة للعالم العربي الإسلامي، يكشف الأستاذ بن الجنوي ، أن الفلاسفة الأطباء العرب اهتموا بدورهم بالنفس البشرية، واعتبر “ابن سينا”، أبو الطب الحديث، الروح من الله، لكن النفس البشريه يمكن أن تكون موضوعا للعلم والتفكير، وبفضل ابن سينا أصبحت النفس حقلا للاستقصاء والبحث.

أما أبو زكرياء الرازي، أمير أطباء عصره، وأول النفسانيين الذين تناولوا الأعراض النفسية والسلوكية؛ يوضّح الأستاذ ابن الجنوي، أنه خصص جناحا من “المارستان” لعلاج الناس الذين يعانون من المرض النفسي. ولالتماس الجناح، لابد من المرور بحديقة كبيرة، بها جوقة موسيقية وترانيم بديعة.. في جو جميل يساهم في العلاج والخروج من الأزمات.

يضيف ابن الجنوي: “في كتابه الطب الروحاني، يتساءل الرازي عن جوهر الروح، عن الغريزة، عن الإحساس واللذة عن الوجع والمعاناة.”

  يستطرد الأستاذ في محاضرته مستحضرا هؤلاء العلماء العرب الذين أثْرَوْا الحقل المعرفي واهتموا بالنفس، ومنهم الفارابي وابن رشد، لينتهي إلى أن تفسيرات هؤلاء العلماء المسلمين هي بدايات لابأس بها، لكنها تبقى محدودة مادامت لم تغطي الجانب المرضي العلاجي.

 تنتهي بنا كرونولوجيا الأحداث إلى العصر الحديث، حيث تتوقف عجلة السرد في القرن التاسع عشر، الذي يشهد مخاض دراسات عديدة في علم النفس بمعناه العلمي. ويستطرد الأستاذ المحاضر في تفصيل هذه الأحداث التي شهدتها أوروبا والتي مهدت لميلاد علم النفس كعلم جديد مستقل قائِمٍ بذاته، اعتمادا على مقاربة علاجية بدأت مع الطبيب الألماني فرانز أنطون ميسمر في سويسرا ( 1815- 1934) حيث أضاف ما أسماه “الوباء النفسي” وأصَّل لطريقته الميسميرية (mismirism) في العلاج، واستعمل التنويم المغناطيسي على مرضاه، فكانت البداية مع فتاة تعاني من عده أعراض حيث شَخَّصَ حالتها بعدم التوازن الذي يأتي من السائل المغناطيسي في جسم الإنسان. فبِحسبه صحة الإنسان تتحكم فيها حركات الكواكب، وهو ما أسس لنظريته: “المغناطيسية الحيوانية”.

يتدارك طبيب الأعصاب الفرنسي” شاركو” ثغرات “ميسمر” ليؤسس لمقاربة علاجية طبية. يضيف ابن الجنوي، أن هذا الأخير سيستعمل التنويم المغناطيسي لعلاج المرضى في جناح بمستشفى سالبترير salpetrière بباريس، ليعالج النساء الهستيريات والمصابات بالصرع ليكتشف أن هؤلاء النسوة الهستيريات يتماهين مع زميلاتهن الصريعات، ويكررن نفس الأعراض. وهو ما تنبه له “شاركو”، فقام بعمل منهجي ميز فيه الأعراض الهيستيرية عن أعراض الصرع، وتوصل إلى أن كثيرا من الأمراض العضوية هي أمراض نفسية بحثة.

في هذا الإطار يعقب الأستاذ ابن الجنوي قائلا: “ما يعاب على هذه المرحلة، هو تفسيرها للهستيريا بأنها اضطرابات في الرحم” ، يؤكد أن “التنويم المغناطيسي سيصبح الوسيلة التي ستجعل النفس موضوعا للاستكشاف والدراسة، وسيضطر سيجموند فرويد لاستعمالها للعلاج، لانعدام بدائل أخرى لمعالجة المريض من اضطراباته”. هكذا سيكتشف فرويد فاعلية التنويم في إخفاء الأعراض الهستيرية؛ وسيدفع الشخص تحت التنويم للتحدث عن أعراضه، و تاريخه المرضي، مما يسمح له بالسفر في غياهب النفس واستكشاف أمراضها. لكن الأمر لن يطول، إذ سرعان ما سيتخلى فرويد عن هذه الطريقة إلى تقنية العلاج بالكلام، وهو ما طلبته “آنا- أو” لطبيبها جوزيف بروير. وهكذا سيطور فرويد إطارا نظريا ومنهجا جديدا للعلاج عبر التداعي الحر الذي يشكل وسيلة للتأويل وتعميق البحث في الحياة النفسية سواء في مظهرها الدينامي أو في بعدها التاريخي.

وهنا يعود بنا الأستاذ المحاضر، وعبر فلاش-باك مفاجئ ، إلى نقطة الانطلاق، وبالضبط إلى بطل فيلم ” The Tender Bar” ليستبدل بذلة المحاضر بسترة المعالج، فيضع بطلنا على كرسي الاعتراف، ويغوص في أعماقه، مقتنصا سره الدفين، و عبر تقنية فرويد في التداعي الحر، يُحَرِّض “ابن الجنوي المعالِج” بطل الفيلم على البوح بالمكنون، على الحديث عن الماضي والحاضر،عن حبيبته التي تهجره كل مرة وحين، عن أبيه البعيد القريب الذي لازال يسكنه، عمّا يمنعه عن اتخاذ القرار الصائب وترك الحبيبة الخائنة.. وهنا يشرع بن الجنوي “المحلل النفسي” في العمل التجميعي، فيربط أحداث الحاضر بالماضي ليفسر هذا التخلي المتكرر. ويخلص إلى أن الإحساس بالتخلي ترسّخ في أعماق الطفل الصغير، فبصم بصمته في اللاشعور. هذا الهجر سُجل في ذاكرته، طبع فيه بصمة المتخَلَّى عنه، ليتكرر معه سيناريو الهجر، مادامت رغبته الدفينة لم تستطع التحقق، فرقدت في اللاشعور إلى حين انبعاثها من جديد عند رشده، لتتحقق بطريقه مرضيه نفسية (سيكوسوماتيكية) لن يدرك سرها الدفين.

في نهاية محاضرته، يعود الأستاذ المحاضر ليشيد بمنهج التحليل النفسي ودوره الفعال في اكتشاف اللا شعور عبر تقنية التداعي الحر، باعتبارها السبيل الوحيد الذي يسمح بسبر أغوار المكنون، وتحرير النفس من المكبوت، والوقوف على ألوان الصراع داخل اللاشعور.

صورة الأستاذ المحاضر: د.سعد ابن الجنوي أستاذ علم النفس المرضي بجامعة الحسن الثاني الدار البيضاء وكاتب ومحلل نفسي في معهد التحليل النفسي بباريس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى