لن يردع الفلسطينيين شيء في سعيهم للحرية
بقلم: السفيرة منى أبو عمارة
سفيرة فلسطين فى كندا
عملت إسرائيل جاهدة لخلق بيئة يصبح فيها مجرد ذكر الحدث الكارثي “النكبة” من المحرمات، رغم كونها المسؤول عن حدوثها والأهوال التي كان على الشعب الفلسطيني تحمل نتائجها حتى يومنا هذا.
هذه القوة الوحشية والمتعجرفة والعازمة على احتكار الألم، نصبت نفسها قاضياً يقرر من يُسمح له بالتعبير عن ألمه ومن يجب أن يعاقب على فعل ذلك.
تجلت النية لسحق أي نقد لإسرائيل بإنشاء “التعريف العملي لمعاداة السامية من قبل التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)، هذا التعريف الذي لم يقد للأسف لإيجاد أي مفهوم واضح أو مفيد لتعريف معاداة السامية، كما قد يقودك عنوانه للاعتقاد.
ما فعله هذا التعريف المثير للجدل هو توفير أداة تسهل وصف أولئك الذين يدعمون حق الفلسطينيين في تقرير المصير والنضال من أجل سيادة فلسطين وحريتها، ويدعمون حقوق الإنسان في فلسطين، بمعاداة السامية، ويضع عبء حماية وأمن المحتل على من هم تحت الاحتلال.
لقد أعربت العديد من المنظمات والعديد من المفكرين اليهود، بما فيهم المؤلف الرئيس لـ”التعريف العملي لمعاداة السامية IHRA “كينيث س. ستيرن، عن قلقهم بشأن إساءة استخدام هذا التعريف والأمثلة الداعمة له، حيث رفضوا مساواة دعم سعي الفلسطينيين للحرية بمعاداة السامية، أو ربط معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، مؤكدين على أنه يمكن للمرء أن يحارب معاداة السامية وأن يكون داعماً لحقوق الفلسطينيين في الوقت ذاته.
ولكن وبمهارة شديدة أُدرج التعريف العملي لمعاداة السامية IHRA أحد عشر مثالاً لا تعتبر رسمياً جزءاً منه، ولكنها تهدف إلى إرشاد القارئ إلى ما يمكن اعتباره فعلا معاداة للسامية، ومن بين هذه الأمثلة الأحد عشر، سبعة تتحدث عن إسرائيل، سبعة! ليس هذا وحسب، يدعي التعريف أن “مظاهر معاداة السامية قد تشمل استهداف إسرائيل، إن تم تصويرها على أنها تجمع يهودي، إلا إذا كان الانتقاد لإسرائيل مماثلا لانتقاد أي دولة أخرى”.
إسرائيل تسوّق نفسها على أنها دولة يهودية، وهي تستخدم ذلك لمهاجمة أي انتقاد لسياستها العنصرية والتمييزية، من خلال تصويرها ببراعة لهذه الانتقادات على أنها تستهدف الدين والمجتمع اليهودي. فكم عدد الجرائم الإسرائيلية التي يمكن أن تكون مقنعة ضمن هذه الفئة في التعريف أعلاه؟ لقد خمنت بشكل صحيح، الكثير.
وماذا تعني عبارة “إلا إذا كان الانتقاد لإسرائيل مماثل لانتقاد أي دولة أخرى”؟ فإذا استيقظت فرنسا غداً لتبدأ نظام فصل عنصري، أو قررت سويسرا شن حملة تطهير عرقي، فأنا متأكدة تماماً من أن أي شخص سيكون قادراً على مواجهتهما بشأن ذلك. فلماذا إذا تم وضع قاعدة لحماية قوة نووية ودولة استعمارية استيطانية ترتكب هذه الجرائم، من تحمل المسؤولية عنها؟ لماذا يتم حماية أي دولة من النقد أياً كان نوعه؟ وكيف يمكن أن تساعد حماية دولة إسرائيل من النقد في حماية الجاليات اليهودية من معاداة السامية؟ لا أحد سيسمح بأن تتمتع أي دولة أخرى بمثل هذه الحماية من المساءلة، فلماذا تكون إسرائيل مرة أخرى استثناء للقاعدة؟.
تخيّل أن تطلق الولايات المتحدة حملة تدعي فيها أنها لا تعاني من أي قضايا تمييز عنصري، ثم تبدأ باستهداف أي شخص يدافع عن المساواة العرقية فيها من خلال وصمهم بمعاداة أمريكا! بالطبع، قد تضحك على مثل هذا التصور لأنه عبثي وغير منطقي، وكذلك هو الحال عند وصف أي شخص يصرح بأن إسرائيل هي دولة فصل عنصري أو دولة عنصرية على أنه معاد للسامية. مثل هذا التصور لا يخدم إلا إسرائيل فقط، وكذلك هو الحال مع التعريف العملي لمعاداة السامية لتحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) في شكله الحالي.
معاداة السامية هي مشكلة حقيقية ويجب محاربتها إلى جانب كل أشكال العنصرية الأخرى.
على مدى سنوات مرت تم حث ودفع الولايات والمقاطعات والمدن والجامعات والمنظمات وما إلى ذلك حول العالم لتبني وتطبيق التعريف أعلاه – مسترشدين بأمثلته – كدليل على التزامهم بمحاربة اللاسامية، لسوء الحظ، كانت النتيجة الوحيدة الملموسة لهذا التعريف هي تأثيره المروع، وذلك من خلال مساواة النقد المشروع لإسرائيل وجرائمها بمعاداة السامية، ومساواة معاداة الصهيونية مع معاداة السامية، وحتى مساواة دعم حقوق الفلسطينيين بمعاداة السامية، فقد تفنن اللوبي المتطرف المؤيد لإسرائيل وجماعاته اليمينية باستخدام هذه الأداة لاستهداف العديد من المثقفين والمتحدثين والمعلمين والطلاب والمنظمات وما إلى ذلك للمضايقة وللوصم والتهديد لدعمهم ومناصرتهم لحقوق الفلسطينيين. كما تم إلغاء الاجتماعات وحظر المؤتمرات، ونُصحت المؤسسات بفصل أو في بعض الحالات عدم توظيف أولئك الذين دافعوا أو أعربوا في أي وقت من الأوقات عن دعمهم للقضية الفلسطينية وحقوق شعبها الإنسانية في معركتهم من أجل العدالة والتحرر. كل ذلك تحت مظلة التعريف العملي لمعاداة السامية المتبنى من قبل التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) واستخدام أمثلته كدليل ومحدد رئيس ترتكز عليه اتهاماتهم.
الدعوة لتحرير فلسطين ليست معاداة للسامية، بل أنها حق. وتحميل إسرائيل المسؤولية عن جرائمها ليس معاداة للسامية، بل أنه ما يجب أن يلتزم به النظام الدولي القائم على القواعد الدولية. أما حرمان الفلسطينيين من حق الدفاع عن أنفسهم حتى عبر اللجوء للأمم المتحدة وللمحكمة الجنائية الدولية ولمحكمة العدل الدولية ولمؤسسات المجتمع الدولي الأخرى، واتهام هذه المؤسسات بالتحيز ومعاداة السامية لمجرد محاولتهم القيام بالوظيفة التي تم إنشاؤهم من أجلها هو عنصرية ضد الفلسطينيين.
لو أن كل ضحية في صراع سابق انتظرت أن يعطيها الجاني ما هو حق لها (أو في حالة فلسطين جزء بسيط من ذلك)، لما تم تصحيح أي خطأ في تاريخ البشرية على الإطلاق.
يتم الضغط على الفلسطيين دولياً لدفعهم لتكبد ظلم المحتل. هذا الضغط الذي يتم باستخدام معايير يفترض أنها بناءة، ولكن عبر توظيفها بشكل انتقائي كما حدث مع التعريف المذكور أعلاه. يتم الدفع بهذه المعايير تدريجياً بهدف إعادة تعريف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بطريقة تتناسب مع محاولات تبييض الجرائم الإسرائيلية، إنه عمل مروع، على أقل تقدير، بخاصة عندما تتجاهل إسرائيل وبشكل صارخ القوانين الدولية وقوانين حقوق الإنسان يومياً مع ضمان الإفلات من العقاب في كل مرة.
كشفت هذه المعايير الجديدة أيضاً مدى ضآلة رغبة المجتمع الدولي، إن وُجدت أساساً، في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ولأكون أكثر صراحة، إذا ما قررت القوى الغربية غداً ممارسة واجبها تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني وأمرت إسرائيل بالالتزام بالقانون الدولي وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، فإن هذا الاحتلال العسكري المستمر منذ عقود سينهار في غضون ساعات وليس أيام.
لكن بدلا من ذلك تساعد هذه القوى إسرائيل في تبييض جذور معاناة الفلسطينيين. يسمحون لإسرائيل بأن تقوم بتحوير التاريخ بطريقة تصور الفلسطينيين على أنهم هم سبب مأساتهم، ظناً منهم أن ذلك التحوير سيساعد على إعفائهم من مسؤولياتهم الأخلاقية وحتى القانونية تجاه فلسطين والفلسطينيين، نتيجة لتثبيت ذلك التاريخ المزيف الجديد.
لسوء الحظ بالنسبة لإسرائيل وللقوى الغربية، لا يمكن لهذا الهدف أن يتحقق، حيث أولاً وقبل كل شيء، الفلسطينيون ورغم كونهم مجموعة متسامحة ليس لديهم أي نية في نسيان من هم ومن أين أتوا، فلكي تنجح إعادة كتابة التاريخ يتوجب على الفلسطينيين النسيان، نسيان ما حدث لهم، وما الذي يقاتلون من أجله، الأمر الذي لن يفعلوه أبداً.
والنسيان عنصر محوري في الخطة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية، بينما على عكس ما تهدف إليه، تقوم نفس هذه المؤسسة الصهيونية المسؤولة عن النكبة بتكرار كتابة التاريخ نفسه مرة أخرى قاطعة الشك باليقين ومبرهنة أنه لم ولن يتعين على الفلسطينيين “تحريض” أطفالهم ضد إسرائيل والجرائم التي ارتكبتها في الماضي، حيث إنها لم تتوقف قط عن ارتكاب أي من تلك الجرائم حتى يومنا هذا.
إنك لن تجد أي فرق إن كنت تتحدث إلى طفل فلسطيني في مخيم للاجئين في لبنان أو طفل في الأردن أو من مخيم للاجئين في جنين، أو طفل يعيش في غزة أو رام الله أو استراليا أو الولايات المتحدة، صدقني عندما أخبرك أنه بطريقة أو بأخرى اختبر كل طفل منهم تأثير هذا الاحتلال الاستعماري الاستيطاني بشكل مباشر.
فإذا كانت إسرائيل لا تستطيع مواجهة جرائمها ولا حتى لديها القدرة على تحمل تسمية الأشياء بمسمياتها، فربما حان الوقت لقطع هذه المهزلة ولأن تتوقف عن ارتكابها بالأساس، بدلاً من البكاء والعويل واتهام الجميع بمعاداة السامية في كل خطوة على الطريق.
التحرر هو جوهر النضال الفلسطيني ولا يمكن للادعاءات الكاذبة بمعاداة السامية تغيير ذلك. سيستمر الفلسطينيون في الدفاع عن حقوقهم حتى التحرر وإلى جانبهم مئات المنظمات وآلاف السياسيين والمثقفين وعشرات الآلاف من اليهود والملايين من أنصار القضية الفلسطينية في جميع أنحاء العالم.
إن علمنا التاريخ أي شيء، فهو أن عدالة المنتصرين والسلام المفروض من جانب واحد لا يمكن أن يولدا العدالة ولا السلام.
ففلسطين موجودة من قبل أن تبدأ هذه القصة المؤلمة، وستظل موجودة حين تنتهي القصة بتحريرها.