رأى

هذه هي حقيقة فلاديمير بوتين لكل المغرمين به في المنطقة العربية

استمع الي المقالة

مفيد الديك

إعلامي ودبلوماسي أميركي سابق

ما يزعجني في المشهد السياسي العالمي هذه الأيام أكثر من محاصرة فلاديمير بوتين لدولة أوكرانيا المجاورة بما يصل إلى 150,000 جندي وبكامل الترسانة العسكرية الروسية التي ورثها بوتين عن الاتحاد السوفياتي السابق هو ما أشهده من تمجيد وانبهار وترويج وتطبيل وتزمير من بعض العرب لشخص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ربما كنموذج للقائد في هذه المنطقة العربية المضطربة. المأساة أن هذه المنطقة لا تعاني أبدا من نقص في “البواتين” لديها في قمة سدة الحكم في دولها المتهالكة التي أعتقد أنها سائرة إلى زوال لأنها تفتقد إلى أبسط أساسيات الدولة الحديثة. الكثير من دول هذه المنطقة لديها “بوتينها” الصغير الخاص بها!

هذا الرجل ليس الزعيم القدوة ولا القائد النموذج الذي يجب ترويجه كمثال يُحتذى للعالم العربي، ولا غيره من المناطق. هذا الرجل ليس إلا زعيم ديكتاتوري، فاسد، قاتل وقامع لحقوق الإنسان والحريات العامة. هذا الرجل ليس صديقا للعالم العربي، وأن كان لديكم أي شك، فإنظروا إلى ما تفعله يديه في سوريا وليبيا، وانظروا إلى علاقاته المتطورة مع إسرائيل منذ عهد بنيامين نتنياهو. وانظروا إلى كيف يدمر سوريا ويقتل شعبها ويفتح المجال أمام كل هجمات إرسائلي على سوريا، ليل نهار.

البعض في هذه المنطقة يعتبر بوتين “المخلًص” له من مشاكله الداخلية كسوريا وليبيا، فيما البعض الآخر يعتبره المدافع القوي عنه وشاكلته أمام الهيمنة الأميركية، كما الحال في العديد من الدول العربية الأخرى. اسمحوا لي أن أقول صراحة، ومنذ البداية، أصدقائي: هذا الرجل ليس إلا ديكتاتور أرعن، وزعيم قمعي ودموي، وبلطجي متحايل، ومتنمر ملطخة يداه بالدم، وفاسد بكل المعايير، يرسخ كل يوم صورة لنفسه صورة الزعيم الأوحد الذي هو أهم من الدولة التي يرأسها وأهم من الأمة التي يتزعمها. بوتين ليس سوى زعيم تفردي، قمعي، ديكتاتوري، متغطرس وأرعن، يسمم معارضيه السياسيين في الخارج ويزج بكل معارضيه السياسيين في الداخل في سجون روسيا التي ورثها عن قادته السابقين في جهاز الاستخبارات السوفاتية الكي جي بي، ويقوم بالتنمر على الدول المجاورة لبلاده التي اختارت بمحض إرادة شعوبها التوجه نحو المعسكر الغربي وبناء منظومة قيم غربية وأنظمة ديمقراطية واقتصاد حر كبولندا ورومانيا وجمهورية التشيك وغيرها الكثير التي بنت دولا ديمقراطية وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي وحلف النيتو.

ولعل أكثر ما يزعج بوتين أن هذه الدول، التي اختارت التمرد عليه والالتحاق بركب الدول الغربية، حققت لشعوبها خلال سنوات قليلة ما فشلت في تحقيقه الحكومات السابقة لهذه الدول من ازدهار اقتصادي ومستوى عيش كريم وحياة ديمقراطية يتم فيها تبادل السلطة دوريا وسلميا، حياة ديمقراطية خالية من العنف والقمع والبطش وكبت الحريات العامة. هذا الرجل ليس الزعيم الذي يجب تمجيده والترويج له ربما كقدوة للزعامة في هذه المنطقة. لو كان في هذا الرجل خير لأبناء جلدته وإقليمه لما انفضت كل هذه الشعوب عنه بمحض إرادتها، وهو الآن يحاول أن يتنمر على بعضها ليعيدها إلى بيت الطاعة، كما يفعل فعليا اليوم بحصاره لأوكرانيا. الناتج القومي المحلي لبولندا مثلا في العام 1991 حين انهار الاتحاد السوفياتي كان حوالي 80 مليار دولار، وهو في العام 2020 يزيد عن 600 مليار دولار.

ودعوني أعلن منذ البدء هنا أنني لا أهاجم بوتين لشخصه بل لمسلكه، وعلى كل الصعد، ولا لمحاباة الغرب الذي يتصدى له لأنني أؤمن أن الغرب مجموعة من الملائكة. أنا لا أدافع عن كل تاريخ الغرب وكل قادته وتجارب العالم العربي والإسلامي معه منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فلدي تظلمات ضد الغرب لا يتسع لها طول المسافة من هنا إلى موسكو. ولكنني أقول أيضا، وبمنتهى الصراحة والشفافية، أنني، كشخص، أفضل أن أعيش ألف سنة تحت البسطار (الجزمة) الأميركية أو الفرنسية أو البريطانية، على أن أعيش يوما واحدا تحت البسطار الروسي، إذا كانت هذه هي كل خياراتي، وهو ما يبدو عليه الحال اليوم في ظل غياب نموذج حكم عربي واحد يتمنى المواطن العربي أن يعيش بكرامة واحترام في ظله.

شعوب المنطقة العربية ليسوا أكثر خبرة بنظام بوتين وسلفه نظام الحكم السوفياتي من شعوب ودول جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وحليفات الاتحاد السوفياتيالسابق في آسيا وأوربا الشرقية. فخبرة هذه الشعوب بنظام بوتين ونظام سلفه الاتحاد السوفياتي هو ما دفع غالبية دول الاتحاد السوفياتي إلى الانشقاق عنه والالتحاق بالمعسكر الغربي، بل وبحلفه العسكري، النيتو، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحلفه العسكري وارسو بدءا بمطلع تسعينات القرن الماضي. عشر من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وحليفاتها في حلف وارسو انضمت فور تمكنها من ذلك إلى الاتحاد الأوروبي وهي: جمهورية التشيك، إستوينا، لاتفيا، المجر، ليثوانيا، بولندا، سلوفاكيا وسلوفينيا، بلغاريا ورومانيا. جورجيا، أرمينيا وأذربيجان تقدمت بطلبات انضمام ولا زالت تنتظر قبولها. وفيما أقام الاتحاد الأوروبي علاقات مميزه مع أوكرانيا، التي يحاصرها بوتين اليوم، فإنه لم يقبل عضويتها الكاملة بعد. ويعني هذا أن كل دولة من دول حلف وارسو خارج الاتحاد السوفياتي السابق – باستثناء ألبانيا – أصبحت عضوًا في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بولندا التي أسمي حلف الاتحاد السوفياتي العسكري السابق، حلف وارسو، على اسم عاصمتها، وارسو!

كما انضمت أكثر من عشر دول من دول الاتحاد السوفياتي السابق بعد انهياره في العام 1991، إلى حلف الناتو ومنها: بولندا والمجر وجمهورية التشيك. وبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ، انضمت دول البلطيق الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا إلى الحلف. وخلال مرحلة التوسع نفسها، دخلت بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا، وكذلك سلوفينيا، وهي جمهورية يوغوسلافية سابقة والدولة الوحيدة خارج الكتلة السوفياتية، إلى الناتو. وفي المرحلة السادسة والأحدث من توسع الناتو في العام 2009 انضمت الدولتان الشوعيتان السابقتان ألبانيا وكرواتيا إلى الحلف أيضا. وهذا يعني أن دول الكتلة الشرقية السابقة التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق، التي كانت مكونة من حوالي 3 دولة، والتي ليست الآن جزءًا من الناتو هي فقط مولدوفا وبيلاروسيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وكازخستان وأوكرانيا، التي تقدمت بطلب للانضمام إلى الحلف الغربي ولم تُقبل عضويتها بعد، مع أن كل المؤشرات تشير إلى أنها ستصبح عضوا في التحالف الغربي. كما أقام الناتو علاقات مميزة مع ثلاث دول أخرى من دول الكتلة الشرقية السابقة وهو يقبول إنه يتطلع إلى ضمها إليه وهي البوسنة والهرسك وجورجيا، إلى جانب أوكرانيا.

هذا الرجل عدو لحقوق الإنسان والحريات العامة والإعلام المستقل. فحسب تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، فتحت قيادة بوتين، تحولت روسيا إلى الاستبداد. ولا يعتبر الخبراء بشكل عام روسيا دولة ديمقراطية، مستشهدين بسجن وقمع المعارضين السياسيين، وترهيب وقمع الصحافة الحرة وغياب انتخابات حرة ونزيهة. وقد جاءت تصنيفات روسيا في ذيل العديد من مؤشرات الحرية والفساد العالمية، مثل مؤشر مؤشر انطباعات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، ومؤشر الديمقراطية لوحدة الاستخبارات الاقتصادية، ومؤشر الحرية في العالم لمؤسسة فريدم هاوس. واعتبارًا من يونيو 2020، وفقًا لمركز ميموريال لحقوق الإنسان، كان هناك 380 سجينًا سياسيًا في روسيا، بما في ذلك 63 شخصًا تمت مقاضاتهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، بسبب أنشطة سياسية (بما في ذلك أليكسي نافالني الذي كان تعرض لعملية تسميم على يد عملاء بوتين) و 245 تمت مقاضاتهم لتورطهم مع إحدى المنظمات الإسلامية المحظورة في روسيا. 78 فردًا ممن هم على القائمة، أي أكثر من 20٪ من الإجمالي، هم من سكان القرم التي احتلها بوتين وضمها إليه في العام 2014.

وهذا الرجل فاسد بكل المعايير. فقد قدرت الأرقام الرسمية الروسية الصادرة خلال الانتخابات التشريعية للعام 2007 ثروة بوتين بنحو 3.7 مليون روبل (150 ألف دولار أميركي) في الحسابات المصرفية، وشقة خاصة بمساحة 77.4 مترًا مربعًا (833 قدمًا مربعة) في سانت بطرسبرغ، وأصول أخرى متنوعة. وبلغ إجمالي دخل بوتين المعلن في العام 2006 مليوني روبل (حوالي 80 ألف دولار). في العام 2012، أعلن بوتين عن دخل قدره 3.6 مليون روبل (113,000 دولار). هذا كله على الصعيد الرسمي، ولكن وفي الآن ذاته، تم تصوير بوتين وهو يرتدي عددًا من ساعات اليد باهظة الثمن، تقدر قيمتها مجتمعة بـ 700,000 دولار، أي ما يقرب من ستة أضعاف راتبه السنوي. عُرف بوتين في بعض الأحيان بتقديم ساعات تقدر بآلاف الدولارات كهدايا للفلاحين وعمال المصانع. كيف أتى بوتين بهذه الأموال لشراء مثل هذه الساعات ومعاشه السنوي لا يتجاوز 113 ألف دولار سنويا؟

وفقًا لسياسيين وصحفيين معارضين روس، يمتلك بوتين سرًا ثروة تقدر بمليارات الدولارات من خلال الملكية المتتالية لحصص في عدد من الشركات الروسية في العديد من القطاعات. وفقًا لأحد المقالات الافتتاحية في صحيفة واشنطن بوست، “قد لا يمتلك بوتين من الناحية الفنية هذه الطائرات الـ 43، “ولكنه بصفته القوة السياسية الوحيدة في روسيا، يمكنه التصرف بها كما لو كانت ملكه”. ويقدر ستانيسلاف بيلكوفسكي ملكية بوتين المخفية بـ 40 مليار دولار، كما تقدر وكالة المخابرات المركزية ثروته الشخصية بـ 40 مليار دولار.

وهذا الرجل ليس صديقا للعرب ولا لقضاياهم. فبالنسبة إلى سجل هذا الرجل في العالم العربي، فلا عليكم أصدقائي أن تذهبوا أبعد من سوريا والدمار الذي ألحقته بها، شعبا وبنيى تحتية ومجتمعية، طائرات بوتين وأسلحته الفتاكة الأخرى. وهو لا زال حتى الآن عاجزا عن حماية سوريا من واحدة فقط من الهجمات المدمرة التي تقوم بها الطائرات والصواريخ الإسرائيلية ضد أهداف عبر سوريا كلها ليل نهار، بما فيها ميناء طرطوس الذي تحتله قوات بوتين بصورة شبه رسمية وشبه كاملة. وأن لم تجدوا ما تريدونه من تدمير يقوم به بوتين في سوريا، فما عليكم سوى النظر في ما تفعله يداه في شرق ليبيا حيث يساعد بوتين عبر ميليشياه الإجرامية المسلحة المعروفة باسم فاغنر أمراء الحرب في تلك المنطقة وسائر أرجاء ليبيا. وعليكم أن تتذكروا أصدقائي حقيقة واحدة أخرى عن هذا الرجل: فهو لا يتدخل عسكريا، على الأقل في المنطقة العربية، إلا في الدول التي تعتبر غنية بالبترول والغاز!

هذا هو بوتين الذي يحاول البعض في هذه المنطقة ترويجه وتسويقه كنموذج للحكم في هذه المنطقة. إرحموني!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى