مفيد الديك
دبلوماسي وإعلامى أمريكى سابق
الإجراءات الاستثنائية التي قام بها الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 تموز/يوليو كان يُفترض، وكما أعلن سعيد نفسه، أن تكون مؤقتة. ولكن مر الآن أكثر من شهرين على اتخاذ هذه الإجراءات — أي تجميد عمل البرلمان المنتخب شعبيا ورفع الحصانة عن كل أعضائه وإقالة رئيس الوزراء، ولا زال سعيد يراوح مكانه. وهو أمر محبط حقا. أكتب عن تونس للمرة الثانية خلال شهرين لا فقط لأن تونس بلد جميل، أخضر، حضاري وشعبه ودود ومضياف لكل العرب، بل ولك مواطني العالم، بل لأن تونس كانت النقطة التي انطلقت منها ثورات الربيع العربي في نهاية العام 2010، ولأن تونس كانت نقطة الضوء الوحيدة المفعمة بالأمل لهذه المنطقة كلها في البدء في إحداث تغييرات أساسية في النظام العربي السياسي المسؤول عن كل هذا الانحطاط الذي يعم العالم العربي من محيطه إلى خليجه. محزن أن يتم اغتيال ديمقراطية تونس لا على يد زعيم إسلاموي ولا جنرال عسكري كما جرت العادة، بل على يد أستاذ جامعي كان يدرس القانون الدستوري في بلاده.
في الشهرين الماضيين منذ حل سعيد البرلمان، وإقالته رئيس الوزراء، ومنحه نفسه السلطة التنفيذية الكاملة، احتدم الجدل حول المستقبل السياسي لتونس الخضراء. في غضون ذلك، تم تجاهل مشاكل التونسيين الأساسية — الوظائف والاقتصاد والصحة والتعليم، وهي الأسباب الرئيسية للاحتجاجات والمظاهرات التي عصفت بتونس في السنوات الأخيرة.
تواجه تونس، العالقة بين برلمان غير فعال ورئيس استبدادي بشكل متزايد، مجموعة قاتمة من الخيارات. في 22 أيلول/سبتمبر، أصدر سعيد المرسوم رقم 117، الذي أكد أن البرلمان الذي علقه سيظل مغلقًا إلى أجل غير مسمى. في الوقت نفسه، احتفظ سعيد لنفسه بالحق في الحكم بمرسوم، مع إلغاء الهيئة التي كانت مكلفة بالتحقق من دستورية أي مرسوم يصدره الرئيس. كما أنه، بعد شهور من التكهنات، عيّن أخيرًا رئيسة وزراء جديدة، نجلاء بودين رمضان، وكلفها بتشكيل الحكومة. ستكون رمضان، الأستاذة البالغة من العمر 63 عامًا في المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس، أول امرأة تتولى منصب رئيس الوزراء في تونس. ومع ذلك، لم يتضح بعد مدى تأثير أي حكومة على هذا الرئيس الذي لا تبشر أي من إجراءاته الأخيرة حتى الان بأنه سيحافظ على المكاسب الديمقراطية التي تفاخر بها التونسيون على مدى العشر سنوات الماضية.
لا تزال مجموعات حقوق الإنسان العالمية قلقة، وهكذا هو حال غالبية الدول الديمقراطية الليبرالية في العالم من أميركا وحتى أوروبا. فقد قالت آمنة القلالي من منظمة العفو الدولية أن “هذا الانجراف الاستبدادي يمهد الطريق لتراجع محتمل عن حقوق الإنسان والحريات في البلاد”. وعلى الرغم من وعد الرئيس باحترام حقوق الإنسان، فإن الافتقار إلى الضوابط والتوازنات يضعف الحماية بطبيعته. هناك بالفعل العديد من علامات التراجع، مثل حظر السفر التعسفي، والإقامة الجبرية، والملاحقات العسكرية أمام محاكم مدنية “.هذا فضلا عن إغلاق مكاتب صحفية لمؤسسات إعلامية كبرى وحبس إعلاميين تونسيين لمجرد انتقادهم الرئيس في رأي أو مقابلة صحفية.
ومع ذلك، على الرغم من الطبيعة غير المناسبة ديمقراطيا للطريقة التي انتزع بها سعيد السلطة قبل أكثر من شهرين، لا يزال دعمه الشعبي مرتفعًا نسبيا، إذا كانت استطلاعات الرأي الأخيرة دقيقة (وهناك أسباب مشروعة للتشكيك في دقتها). في جميع أنحاء البلاد، لا يزال الوجود العسكري منخفضًا، ولا زال التونسيون أحرارا في ممارسة أعمالهم اليومية، مع السماح حتى للمظاهرات، مثل تلك التي نُظمت يوم الأحد، بالمضي قدمًا. وربما ما هو أهم أن جائحة كوفيد-19 قد انحسرت، وهو ما كان قد أدى إلى اكتظاظ المستشفيات في تونس بالمرضى وسجلت البلاد أعلى معدل وفيات للفرد في المنطقة في تلك الفترة.
من المفهوم لماذا قد يدعم العديد من التونسيين حل سعيد للبرلمان. فبعد مرور عشر سنوات على الثورة، ظلت الدعوات المأمولة من أجل “التوظيف والحرية والكرامة” دون استجابة إلى حد كبير من قبل البرلمان الذي يُعتقد أنه فقد الاهتمام بالبلد الذي انتخب ليحكمه. ولكن أصدقائي، علينا أن نتذكر دائما أنه بغض النظر عن سوء إدارة أو مسلك (عدا بالطبع عن الذين ينتهكون القانون) من يُنتخبون عبر الصندوق، فإنه لا يجب إزالتهم إلا عبر الصندوق. هؤلاء الذين جاؤوا عبر الانتخاب الحر النزيه يجب أن يكملوا فترتهم الانتخابية، أو أن يتم التراضي عبر حوار سياسي شعبي على إجراء انتخابات مبكرة للرئيس ولمجلس النواب معا. هذه هي بعض الأدوات التي ابتكرتها الديمقراطية لحل مثل الإشكال الحادث في تونس.
ورغم كل المؤشرات السلبية العديدة والمؤسفة في تونس، فلا زالت هناك — على ما آمل — قواعد مؤسسية صامدة في هذا البلد العظيم، لعل أهمها وقوف الجيش التونسي موقف الحياد بين الأفرقاء السياسيين، وهو ما يميز تونس عن غالبية الدول العربية التي حدثت فيها انتفاضات الربيع العربي. ففي غالبية دول الربيع العربي، وللأسف الشديد، وقفت المؤسسات العسكرية فورا مع القوى الانقلابية ما أدى إلى حمامات الدم ومشاهد القمع والكبت وكم الأفواه والتغول على الحريات المدنية وحقوق الإنسان والزج بعشرات الآلاف من المعارضين السياسيين في السجون. مرة أخرى أقول، تحية لجيش تونس! هكذا يجب أن يكون دور المؤسسة العسكرية – حماية الوطن والدستور والمواطنين بالتساوي، وليس حماية رافعي لواء الانقلاب والمتفردين بالسلطة والمستفيدين من استمرار الوضع الراهن.
كما أن هناك بعض مؤسسات المجتمع المدني، وهي التي تكون عادة حاضنة طبيعية للأنظمة الديمقراطية ومدافعة عنها، لا زالت صامدة وتدافع عن الديمقراطية التونسية وعن بقاء تونس رائدة في الإقليم في نشر الديمقراطية والليبرالية السياسية. ومن هذه المؤسسات الاتحاد التونسي العام للشغل، الذي تأسس العام 1946 ويضم في عضويته أكثر من نصف مليون عامل تونسي. كما لا زالت بعض المنابر الإعلامية، وهي أيضا مدافعة شرسة عن الديمقراطية، تعمل بلا كلل لنقل ما يحدث في تونس بتجرد ومهنية عالية.
بعض دول الإقليم، وهذه حقيقة، تعتبر الديمقراطية – لا إسرائيل ولا إيران ولا الأمية المستشرية ولا البنية التحتية المتهالكة ولا المياه الشحيحة ولا وباء كورونا ولا انهيار كل شيء من التعليم حتى الصحة، إلخ، – عدوها الأساسي. فهذه الدول ترى أن الديمقراطية هي التي ستجردها من امتيازاتها التي لا تستحقها أبدا، فلا هي جاءت إلى الحكم لأنها عبقرية ولا بانتخابات شعبية تعبر عن الإرادة السياسية لشعوبها. هذه الأنظمة بجيوشها المجيشة التي تُسرق لقمة عيش الفقراء من شعوب هذه المنطقة لتمويلها على هدف أن تحميهم، هي التي أحبطت كل الثورات العربية في انتفاضة الربيع العربي خلال السنوات العشر الماضية. وهي التي لم يكن يعجبها نجاح التجربة الديمقراطية التونسية التي تخشى أن تتدحرج مع الوقت لتصل إليها. وهذه الأنظمة مستعدة لإنفاق مليارات الدولارات – لا من أجل التنمية ولا من أجل نهضة التعليم أو النظام الصحي أو غير ذلك في الدول المجاورة، بل من أجل وأد التجربة الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي. إنه أمر بائس ومحزن ومؤلم ومثير للإحباط. هذه الدول في الإقليم تعبث في الشأن السياسي الداخلي لتونس – لا شك لدي في ذلك أبدا.
إذا كان الرئيس سعيد صادقا في ما يقول وما ينوي، فعليه أن يطرح فورا خارطة طريق بالتشاور مع الأحزاب السياسية التونسية الرئيسية لإعادة تونس بتجربتها الديمقراطية الاستثنائية إلى جادة الصواب وإعادة ترسيخ الشرعية والدستور التونسيين. وإن لم يرد ذلك، فعليه الدعوة إلى انتخابات مبكرة في تونس لمنصب الرئيس والبرلمان معا. على الرئيس التونسي أن يتذكر أن مجلس النواب الذي جمده بجرة قلم مؤلف من 217 عضوا هم كلهم انتخبوا مباشرة من الشعب التونسي ويتمتعون، ربما أكثر منه، بالشرعية السياسية والدستورية التي يتمتع بها. وإلا فإن الرئيس التونسي يكون يواصل فعلا انقلابه الناعم على الديمقراطية الوحيدة التي جاءت نتاجا لربيع عربي قاس ودام. وإذا كان الرئيس سعيد يعتقد أن مكافحة الفساد والتغول على السلطة المدنية يأتيان عن طريق الانقلابات، فما عليه إلا أن ينظر في أي اتجاه يريد من حوله في هذا الإقليم، ليرى العجب…