رأىسلايدر

هكذا منع العسكر ترامب من شن حرب على إيران في آواخر أيامه

استمع الي المقالة

بقلم: مفيد الديك

إعهلانى ودبلوماسي أميركي سابق

حسب كتاب جديد للكاتبين في صحيفة واشنطن بوست، كارل ليونيغ وفيليب ركر، بعنوان ” I Alone Can Fix It: Donald J. Trump’s Catastrophic Final Year” صدر هذا الشهر في الولايات المتحدة، وقفت القيادات العسكرية الأميركية متحدة أمام ترامب ومنعته بقوة من التفكير في استخدام القوات المسلحة الأميركية للبقاء في الحكم، حتى ولو لشهرين أو ثلاثة أشهر إضافية. الكتاب حافل بالأسرار عن ترهات ترامب واشتطاطاته الغريبة ومحاولاته المستميتة للتشبث بالسلطة بعد هزيمته في انتخابات 20 نوفمبر، 2020 أمام المرشح الديمقراطي حينئذ جو بايدن. ولكن ربما كان السر الأهم في هذا الكتاب هو محاولة ترامب إقناع قيادة القوات المسلحة الأميركية بتوجيه ضربات مدمرة لمواقع إيران النووية بعد هزيمته في الانتخابات، وتوقع أن ترد إيران بطريقة أو أخرى على الهجمات الأميركية، ما يوسع المواجهة إلى حرب شاملة بين واشنطن وطهران، وهو ما قد يساعد ترامب على فرض الأحكام العسكرية وربما البقاء في البيت الأبيض لفترة أطول بسبب “ظروف الحرب” التي افتعلها!

لكن قادة القوات المسلحة الأميركية، ممثلة برئيس هيئة الأركان المشتركة ووزير الدفاع، وقفوا لترامب بالمرصاد ومنعوه من ذلك. كنت قد ذكرت في مقال سابق أن أحد أهم أركان النظام الديمقراطي – فضلا عن الانتخابات الحرة النزيهة ووجود أحزاب سياسية قوية وحرية التعبير والإعلام واستقلال القضاء – هو السيطرة المدنية على القوات المسلحة وعدم تدخل العسكر في السياسة أبدا. نجحت أميركا في هذا الاختبار بتفوق، ربما على كل المستويات. فقد رفضت المحاكم الأميركية قبول ادعاءات ترامب بأنه هو الذي فاز في الانتخاباات رغم افتقاره لأي دليل منطقي على ذلك، وظل الإعلام الأميركي حرا مستقلا وواصل مهاجمته لترامب وتصرفاته غير المتسقة مع أي نظام ديمقراطي، كما واصل الحزب الديمقراطي المعارض نشاطاته لإحباط محاولة ترامب الاستيلاء على السلطة حتى بعد أن دعا وحرض بعضا من الرعاع من أنصاره على مهاجمة الكونغرس لمنع آخر خطوة من خطوات المصادقة على نتائج الانتخابات من قبل مجلسي النواب والشيوخ يوم 6 يناير 2021. فشل ترامب ونجحت الديمقراطية.

وحسب الكتاب الجديد، كانت آخر مرة تحدث فيها الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، مع ترامب يوم 3 يناير 2021. وكان موضوع اجتماع ذلك اليوم، الذي صادف يوم الأحد، في البيت الأبيض، هو برنامج إيران النووي. خلال الأشهر العديدة التي سبقت ذلك التاريخ، قام ميلي بجهود حثيثة في الخفاء لضمان عدم دخول ترامب في صراع عسكري مع إيران كجزء من حملته الخيالية لإلغاء نتائج انتخابات 2020 والبقاء في السلطة. خشي ميلي سرا من أن يصر ترامب على توجيه ضربة للمصالح الإيرانية يمكن أن تؤدي إلى حرب شاملة معها.

أخبر ميلي زملاءه في هيئة أركان الجيوش الأميركية أنه كان هناك “سيناريوهان مرعبان” للفترة التي تلت انتخابات 3 نوفمبر، والتي أسفرت عن هزيمة ترامب ولكن ليس تنازله عن الحكم كما هو التقليد المرعي منذ استقلال الجمهورية الأميركية قبل أكثر من 250 عاما: أحدهما هو أن ترامب سيحاول “إنزال الجيش إلى شوارع أميركا لمنع انتقال شرعي وسلمي للسلطة.” والثاني هو أن يخلق أزمة خارجية مع إيران التي كان قد انسحب من الاتفاق النووي معها قبل سنتين وفرض عليها عقوبات لم يسبق لها مثيل. لم يكن الأمر معروفا في ذلك الوقت، لكن ميلي اعتقد أن الولايات المتحدة كانت قريبة – “بل كانت قريبة جدًا” – من صراع مسلح مع الجمهورية الإسلامية في تلك الفترة. قال ميلي إن تلك الفترة الخطيرة التي أعقبت الانتخابات نتجت عن احتضان ترامب لما يشبه احتضان هتلر لـ “الكذبة الكبيرة” بأن الانتخابات قد سُرقت منه. خشي ميلي أن تكون تلك “لحظة الرايخستاغ” بالنسبة لترامب، حيث حاول، كما فعل أدولف هتلر في العام 1933، اختلاق أزمة قبل أن يتدخل “بعبقريته وشجاعته” (متهكما بالطبع) لحلها وتخليص الأمة منها.، وفي مقابل ذلك يسمح له الوضع بالبقاء في السلطة ولو لفترة قصيرة!

ولكنه ولمنع مثل هذه النتيجة، بدأ ميلي، منذ أواخر العام 2020، يعقد اجتماعات هاتفية صباحية، في الساعة 8 صباحًا، مع البيت الأبيض، وفي معظم الأيام، مع رئيس موظفي البيت الأبيض، مارك ميدوز، ووزير الخارجية مايك بومبيو، على أمل الوصول بالبلاد بأمان إلى حفل تنصيب جو بايدن في 20 يناير. كان ميلي، وهو جنرال قوي البنية يحمل أربع نجوم تم تعيينه في المنصب من قبل ترامب في العام 2019، يشير إلى هذه المكالمات في الاجتماعات مع موظفيه على أنها مكالمات “هبوط الطائرة بنجاح” – كما هو حال محاولة إنزال طائرة في مهبطها بعد فشل محركيها وتعليق معدات هبوطها، مضيفا “نحن في وضع طوارىء ومهمتنا هي أن تهبط هذه الطائرة بأمان والقيام بعملية انتقال سلمي للسلطة في 20 يناير “.

كانت هذه المواجهة غير العادية بين المسؤول العسكري الأعلى للجيوش الأميركية والقائد العام للقوات المسلحة (ترامب بحكم الدستور) قائمة طوال العام 2020. وحسب الكتاب، فقد كان ميلي قد صاغ قبل الانتخابات خطة لكيفية التعامل مع مثل هذه الفترة المحفوفة بالمخاطر التي تسبق تنصيب الرئيس الجديد بعد ما رآه وتعلمه عن ترامب وشخصيته ومسلكه. حدد ميلي أربعة أهداف لتلك الخطة: أولاً، التأكد من أن الولايات المتحدة لن تخوض دون أي مسوغ قانوني أو أمني حربا خارجية. ثانيًا، التأكد من عدم استخدام القوات الأميركية في شوارع أميركا ضد الشعب الأميركي بغرض إبقاء ترامب في السلطة. ثالثًا، الحفاظ على نزاهة الجيش وعدم تدخله في السياسة بغض النظر عن الأثمان. وأخيرا، الحفاظ على نزاهته هو كأعلى مسؤول عسكري للقوات المسلحة. كان ميلي يستذكر هذه الأهداف الأربعة كثيرًا في محادثاته مع زملائه الآخرين في هيئات أركان القوات الأميركية.

ومع تواصل الأزمة مع ترامب وتبين أن مخاوف الجنرال ميلي بشأن عدم قبول الرئيس للهزيمة في الانتخابات قد تحققت، بدأ ميلي يعقد اجتماعات متوالية على انفراد مع بقية أعضاء هيئة الأركان المشتركة. طلب ميلي منهم بصراحة التأكد من عدم وجود أوامر غير قانونية من ترامب و”عدم تنفيذ أي أوامر من هذا القبيل دون الاتصال به أولاً.” كان ذلك شبيها جدا بما حدث في الأيام الأخيرة لريتشارد نيكسون، عندما حذر وزير دفاعه، جيمس شليزنغر، الجيش من مغبة التصرف بناءً على أي أوامر من البيت الأبيض لشن ضربة نووية دون إبلاغه أولا بالأمر أو الاتصال بمستشار الأمن القومي، هنري كيسنجر. وحسب الكتاب الجديد، أبقى ميلي على تواصله المستمر مع أعضاء الكونغرس المعنيين – بمن فيهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل – وأيضًا مع مبعوثين من إدارة بايدن القادمة. وكان ميلي يقول في تلك الاتصالات “قد يحاول ترامب القيام بعملية انقلاب من نوع ما للبقاء في السلطة، لكنه سيفشل لأنه لن ينجح أبدًا في الاستعانة بالجيش الأميركي.” وكان يردد: “ولاؤنا لدستور الولايات المتحدة فقط، ولن نتدخل في السياسة”.

كان ميلي في وضع استنفار كامل منذ صيف العام 2020، أي قبل أشهر من انتخابات نوفمبر الرئاسية. في الأول من يونيو ذلك الصيف، استخدم ترامب الجنرال كدعامة مهمة في صورته الشهيرة التي التقطها له مساعدوه في ساحة لافاييت مقابل البيت الأبيض هو يحمل الإنجيل: لقد سار ترامب عبر تلك الساحة بعد دقائق من طلبه من حراس البيت الأبيض تطهيرها بعنف من مظاهرة سلمية لأنصار “حياة السود مهمة.” وقد اصطحب معه، دون علم منهم كما ذكرت التقارير، وزير الدفاع مارك إسبر ومجموعة من مستشاريه في البيت الأبيض، وميلي الذي كان يرتدي الزي العسكري، كما لو كان في حالة حرب داخل أميركا. اعتبر ميلي، وهو آيرلندي كاثوليكي من منطقة بوسطن يعبد الدستور وتقليد الحياد السياسي للجيش الأميركي، أن هذه الصورة كانت بالنسبة إليه ما أسماه “لحظة دمشق”، أي بضع دقائق قصيرة من سوء التقدير الذي سيطارده إلى الأبد. فكر في الاستقالة لكنه قرر بدلاً من ذلك القيام بكفارته. قال لموظفيه “سأقاتل من الداخل”. في الأسبوع التالي، وخلال خطاب كان مقررا مسبقًا، اعتذر ميلي بحرقة علنًا عن المشاركة في ذلك الاستعراض السياسي لترامب الذي قال إنه لم يكن مناسبًا تمامًا لقائد القوات المسلحة الأميركية التي يجب أن لا تُسيس أبدا، كما قال.

هكذا يجب أن يتصرف العسكر، أي أن يحموا الدستور والشعب، وليس الرئيس، إذا أرادوا الحفاظ على نظامهم الديمقراطي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى