بقلم: مفيد الديك
مفيد الديك إعلامي ودبلوماسي أميركي سابق
كانت مواجهة أيار الدموية بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة أول أزمة خارجية كبرى تواجه رئاسة بايدن منذ وصوله إلى البيت الأبيض في كانون الثاني الماضي. كان تلك المواجهة تطورا فاجأ إدارة بايدن وفريقه للأمن القومي الذي اضطر إلى ترك كل شيء تقريبا من أجل التركيز على تلك المواجهة. وكانت تلك المواجهة منعطفا حاسما بالنسبة للحزب الديمقراطي الأميركي، حزب الرئيس بايدن. فقد طالب الجناح الليبرالي المتزايد قوة ونفوذا في الحزب بايدن بتقديم رد أكثر قوة على تصرفات إسرائيل في تلك المواجهة، لا سيما الدمار الواسع لمبان ومؤسسات مدنية بحتة والقتل الذي تسببت فيه الآلة العسكرية الإسرائيلية، الأميركية التصنيع.
هل كان تعامل بايدن مع تلك المواجهة أفضل مما لو كان سلفه دونالد ترامب في الحكم؟ بالتأكيد. هل سيعمل بايدن جاهدا لإعادة بناء ما دمرته حرب الـ 11 يوما في غزة وتحسين ظروف العيش لمواطني القطاع؟ من دون شك. هل سرعت تلك الحرب إعادة استئناف العلاقات الأميركية الفلسطينية التي كان قد قطعها ترامب بالكامل، بما في ذلك إغلاق القنصلية الأميركية في القدس ووقف كل المساعدات الأميركية للفلسطينيين، ومن بينها المساهمات المالية الأميركية لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وإغلاق مكتب الممثلية الفلسطينية في واشنطن؟ نعم. هل تغيرت اللهجة التي تتحدث بها الإدارة الأميركية عن الفلسطينيين عن تلك التي اتبعها ترامب وعصابته في البيت الأليض حينئذ في الحديث عن الفلسطينيين؟ لا شك أبدا في ذلك. بايدن تحدث عن حق “الفلسطينيين والإسرائيليين بصورة متساوية في التمتع بالأمن والحرية”، وتحدث لرئيس السلطة محمود عباس للمرة الأولى منذ وصوله إلى البيت الأبيض، ووجه وزير خارجيته بلينكن لزيارة رام الله والاجتماع إلى عباس ومسؤولي سلطته حين قام الأخير بزيارته الخاطفة للمنطقة بعد وقف إطلاق النار. بايدن ألغى الكثير من اشتطاطات ترامب في هذه المنطقة، وأعاد الحديث عن “حل الدولتين”، وأضع قوسين حول عبارة حل الدولتين لأنني مقتنع، وكذلك غالبية المتابعين لتطورات الشرق الأوسط، أن القطار قد ترك المحطة بالنسبة إلى مثل هذا الحل. هل سيواصل بايدن العمل على تحسين أوضاع الفلسطينيين سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة؟ نعم. كل هذه تطورات مهمة ومرحب بها، لا شك وهي تمثل تغيرا هائلا بالمقارنة مع تعامل ترامب مع هذه القضية.
ولكن، هل ستؤدي تلك المواجهة وما تبعها إلى دفع بايدن إلى إعادة ترتيب أولوياته في الشرق الأوسط؟ هل سيؤدي ذلك إلى إطلاق بايدن مبادرة سلام جديدة في المنطقة، سواء على أساس حل الدولتين أو غيره؟ هل سيتمكن بايدن من ردع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، رغم غياب سيطرة اليمين الإسرائيلي الكاملة وبنيامين نتنياهو على هذه الحكومة، عن مواصلة قضم الأراضي الفلسطينيين والتوسع الاستيطاني في أراضي الضفة؟ هل سيوقف بايدن عمليات التطبيع التي بدأها ترامب بين بعض الدول العربية وإسرائيل في خريف العام الماضي على أساس أن مواصلة عمليات التطبيع هذه لن تعمل سوى على إضعاف أي حافز لدى إسرائيل لتقديم بعض التنازلات التي تجعل التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين أمرا يستحق تقديم مثل هذه التنازلات؟ الإجابة عن كل هذه الأسئلة الأساسية هي، وللأسف، لا. هذا ربما سوى أنه سيعمل جاهدا على منع إسرائيل من زيادة اشتطاطات ضم الأراضي وإقامة المستوطنات الجديدة أو توسيعها بصورة ربما تعيد المنطقة إلى مواجهة عسكرية جديدة، ولكن من دون أن تؤدي الجهود الأميركي على هذا الصعيد إلى انهاير حكومة بينيت-لابيد.
لماذا لن يقوم بايدن بذلك؟؟
لخص بريت ماكغورك، منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي في إدارة بايدن هذا بقوله: “نعتقد أن هناك بعض الفرص هنا، لكن علينا أن نكون واقعيين للغاية. نحن لا نريد تحديد أهداف غير قابلة للتحقيق وإضاعة الوقت في السعي لتحقيق هذه الأهداف.”
وقال ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية لشبكة سي إن إن: “أولويات بايدن ما زالت محلية. بايدن لا يريد، ولا يستطيع، أن يبحث عن انخراط ثقيل في السياسة الخارجية. أعتقد أنه لا توجد حجة قوية للانخراط بجدية في القضية الإسرائيلية الفلسطينية لأن قطع اللعبة غير موجودة، ولا حتى قريبة من أن تكون موجودة، وليس هناك شعور بأن أي دبلوماسي – مهما كان موهوبًا – يمكنه تحقيق تقدم في هذه القضية.”
الرجلان محقان في ذلك. إدارة بايدن تدرك أن ليست هناك فرصة كبيرة أبدا لتحقيق اختراق في عملية سلام الشرق الأوسط. حكومة إسرائيل بتركيبتها الحالية غير قادرة على إنجاز مثل هذا الأمر، والضغط عليها من أجل ذلك سيؤدي لا محالة إلى انهيارها ما سيؤدي إلى عودة نتنياهو واليمين بكامل قوته إلى الحكم في إسرائيل، وهو ما سيعقد علاقات بايدن مع إسرائيل والفلسطينيين بصورة أسوأ بكثير في هذه المرحلة. ثم أن الفلسطينيين أنفسهم ليسوا متحدين لتشكيل حكومة يمكن التفاوض معها واتخاذ قرارات “مؤلمة” لحل الصراع. ولكن ليس هذا هو كل الموضوع.
إدارة بايدن جاءت إلى الحكم لتخليص أميركا من كل أو غالبية الأزمات التي أدخل ترامب أميركا فيها في سنواته الأربع العجاف. وتتركز هذه في:
أولا، تداعيات أزمة كورونا التي جعلت أميركا أسوأ دولة في العالم في مواجهة هذا الوباء المدمر. الوفيات الأميركية حتى الآن تبلغ ما يقرب من 615 ألف شخص، وعدد إصابات الوباء المؤكدة ما يقرب من 34 مليونا!!
ثانيا، الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تسبب فيها وباء كورونا للولايات المتحدة. لا زالت أعداد العاطلين عن العمل في الولايات المتحدة تزيد عن 10 ملايين، وعشرات آلاف الأعمال الصغيرة والمتوسطة فيها لا زالت مغلقة.
ثالثا، ثم هناك الأزمة العرقية في الولايات المتحدة التي أججها ترامب من أجل مصالحه الشخصانية وعنصريته ليس إلا، وهي أزمة أعادت أميركا إلى الوراء، ربما إلى ما كانت عليه هذه العلاقات في منتصف القرن الماضي. أميركا لم تعد هي نفسها في سنوات ترامب الأربع على هذا الصعيد، وصعد أخرى كثيرة.
ورابعا، على صعيد علاقات أميركا الخارجية، هناك الكثير من العمل الذي يجب أن يقوم به بايدن لترميم ما أفسده ترامب، لا سيما لناحية علاقات أميركا مع أقرب حلفائها الأوروببيين وكندا وغير هذه.
إذن ما هي أجندة بايدن في منطقة الشرق الأوسط؟
القضايا التي تركز عليها إدارة بايدن في منطقة الشرق الأوسط هي ثلاث، وكلها قضايا يستطيع بايدن أن يدافع عن استثماره الجهد والمال فيها على أساس أنها قضايا مرتبطة بالأمن القومي الأميركي. وهذه القضايا مترابطة بعضها ببعض، وتدور كلها حول خصم مهم للولايات المتحدة في المنطقة، وهي إيران، التي تحقق تقدما فيها، وحليفات الولايات المتحدة في المنطقة التي تعاني في كل هذه الملفات. وهذه القضايا هي:
البرنامج النووي الإيراني. ترى إدارة بايدن أن عدم التواصل إلى اتفاق مع إيران لتجميد برنامجها النووي – كما فعل سلفه ترامب – سيؤدي لا محالة إلى امتلاك إيران أسلحة نووية، وهو ما يهدد مصالح الأمن القومي الأميركي لأن ذلك سيغير قواعد اللعبة لا بالنسبة إلى إسرائيل وإنهاء هيمنتها على المنطقة فقط، وإنما لغالبية الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة التي ستضطر للعودة إلى بيت الطاعة الإيراني.
الحرب في اليمن. هذه أيضا هي ملف شؤون خارجية مرتبط بملف إيران النووي، أي أن الخصم فيه هو إيران وانتصارها في هذه الحرب سيؤدي إلى زعزعة استقرار دول الخليج وتوسيع نفوذ إيران في المنطقة عبر حليفها الحوثي.
العراق. ترى إدارة بايدن أن على واشنطن أن تستكمل بناء الدولة القوية في العراق لتمكين انسحاب القوات الأميركية من هذه الدولة من دون أن يتم تسليم هذا البلد بالكامل لإيران، للأسباب السابقة الذكر نفسها، أي تقوية إيران وإضعاف حليفات الولايات المتحدة في المنطقة وزعزعة أمن الخليج بطريقة غير مسبوقة.
القضية الفلسطينية، أصدقائي، إضافة إلى الأسباب التي سقتها أعلاه التي لا تشجع بايدن على الانخراط في معالجتها، ليست قضية أمن قومي أميركي؛ على الأقل في هذه الفترة. هي قضية أخلاقية، قضية إنسانية، قضية حقوق إنسان ومساواة وعدالة وما إلى ذلك. وحتى إن كان البعض قد يصنفها على أنها قضية أمن قومي للولايات المتحدة، فإن الجزء المتعلق بالأمن القومي فيها هو أن حليفة الولايات المتحدة الطرف في هذه القضية، إسرائيل، هي الطرف المنتصر في المواجهة مع الفلسطينيين، لا الطرف الذي يعاني. أضف إلى ذلك أن جانبا آخر في هذه القضية وكان يشكل جانبا من جوانب الأمن القومي الأميركي، وهو الإرهاب، هو الآخر أصبح غائبا أو يكاد.