بقلم: مفيد الديك
الدبلوماسي الأميريكى والإعلامى المعروف
مر أكثر من ستة أسابيع على المحادثات الأميركية الإيرانية غير المباشرة في فيينا لاسئتناف الاتفاق الإيراني الأميركي النووي للعام 2015 والذي انسحبت منه إدارة الرئيس النرجسي دونالد ترامب في العام 2018 لسببين لا علاقة لهما بتاتا بمصالح الأمن القومي الأميركي: أولهما أنه اتفاق وقعته إدارة غريمه الأكبر باراك أوباما وبالتالي يجب إلغاؤه، وثانيهما أنه يرضي إسرائيل ما سيعود عليه برضى اليمين المسيحي الأميركي الذي يمنحه عشرات ملايين الأصوات الانتخابية في الانتخابات السابقة – وهو ما لم يحدث بالطبع.
فيما لم يكن متوقعا التوصل إلى اتفاق بين الطرفين خلال فترة قصيرة منذ البداية، فإن ثلاث جولات من المفاوضات المكثفة غير المباشرة بين المفاوضين الإيرانيين والأميركيين لم تفض حتى الآن إلى الإعلان عن اتفاق. ما الذي يحدث؟ هل الطرفان مترددان في التوصل إلى اتفاق؟ هل هناك ضغوط داخلية في إيران والولايات المتحدة تمنع قيادتيهما من الإسراع في التوصل إلى اتفاق؟ أم أن الطرفين، وكما يبدو لي شخصيا، يتفاوضان على اتفاقين مختلفين تماما حتى الآن، وهو ما يوسع الهوة بينهما بدل أن يقلصها؟ وأخيرا، هل سيتوصل الطرفان إلى اتفاق في فيينا قريبا أم لا؟
هناك ثلاثة عوامل يجب النظر إليها في هذا السياق: الظروف السياسية المحلية للبلدين، وتصور كل منهما لما يجب أن يكون عليه الاتفاق الجديد، ونفوذ إسرائيل على عملية التفاوض نفسها.
يقول مسؤولو إدارة الرئيس بايدن وقادة إيران إنهم يشتركون في هدف واحد: فكل منهما يريد عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي للعام 2015، والعودة أساسا إلى معادلة أساسية لذلك الاتفاق: أن تلتزم إيران بقيود صارمة على إنتاجها من الوقود النووي مقابل رفع العقوبات الأميركية والدولية عنها. رأيي المتواضع أنه بعد أكثر من خمسة أسابيع من المفاوضات الشاقة في غرف فنادق فيينا – حيث يتبادل الجانبان مواقفهما عبر وسطاء أوروبيين وروس وصينيين – أصبح من الواضح أن الصفقة القديمة، المحددة بدقة والتي تم التوصل إليها بعد مفاوضات مضنية، لم تعد صالحة لأي منهما، على الأقل على المدى الطويل. هذا، باختصار شديد، هو سبب تأخر التوصل إلى اتفاق أميركي إيراني في محادثات فيينا.
يطالب الإيرانيون في مفاوضات فيينا بالسماح لهم بالاحتفاظ بمعدات إنتاج الوقود النووي المتقدمة التي قاموا بتركيبها بعد أن انسحب ترامب من الاتفاقية، والسماح لإيران بالعودة إلى النظام المالي العالمي بما يتجاوز ما حققوه بموجب اتفاقية العام 2015. وفي الطرف الآخر، يعترف كبار مساعدي بايدن بأن ثلاث سنوات من “الضغوط القصوى” على إيران التي صممها ترامب فشلت ليس فقط في تحقيق هدف إبطاء برنامج إيران النووي كما كان يدعي، بل ايضا في منع تقدم المشروع النووي الإيراني وقرب إيران من الوصول إلى نقطة اللاعودة في تصنيع سلاح نووي.
ويقول مسؤولو المخابرات الأميركية إن إيران عززت إنتاجها من المواد النووية عالية التخصيب – وربما لم يتبق أمامها سوى أشهر فقط على قدرتها على إنتاج ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لقنبلة أو قنبلتين. تريد إيران رفع المزيد من العقوبات الأميركية عليها بما يتفق مع الصفقة القديمة، مع الإصرار على الاحتفاظ ببنيتها التحتية النووية التي حسنتها خلال السنوات الثلاث الماضية بعد انسحاب ترامب من الاتفاقية- لا سيما أجهزة الطرد المركزي المتقدمة – أكثر مما تسمح به تلك الصفقة القديمة.
من جانبها، تقول إدارة بايدن إن العودة إلى الصفقة القديمة هي مجرد نقطة انطلاق. ولكنها تريد الآن على ما هو واضح أتباع ذلك على الفور باتفاق آخر يشمل الحد من برنامج إيران للصواريخ ودعم طهران لمجموعة من حلفائها في المنطقة – حزب الله اللبناني والحوثيين والجماعات الشيعية في سورية والعراق – فضلا عن تحقيق هدف عدم تمكين إيران من إنتاج وقود كافٍ لصنع قنبلة نووية لعقود قادمة.
ولهذا، ورغم أنني مقتنع تماما بأن الطرفين يريدان فعلا وبقوة التوصل إلى اتفاق وبسرعة – كل لمصالحه الخاصة في هذه المرحلة- فإنني أعتقد أن الطرفين لا زالا حتى الآن يتفاوضان حقًا على صفقتين مختلفتين، ولهذا السبب كانت المحادثات في فيينا بطيئة للغاية حتى الآن.
المشكلة أساسا تتمثل في أن الأميركيين يريدون العودة إلى الاتفاق القديم كخطوة أولى نحو اتفاق أكبر بكثير يتم التوصل إليه بعد ذلك مباشرة يشمل الحد من تقدم برنامج إيران الصاروخي ويشذب مسلك إيران على الصعيد الإقليمي. وتشجعهم في ذلك رغبة إيران في تخفيف سلسلة من القيود المالية التي فرضها ترامب عليها وتتجاوز تلك الصفقة – والتي تتضمن في غالبها منع النظام المالي الإيراني من أن يكون جزءا من النظام المالي الغربي – وهو ما تعتقد إدارة بايدن أنها تمثل فرصة لما وصفه أحد مسؤولي إدارة بايدن بأنه “ظرف ناضج للتفاوض بشأن اتفاق لاحق مع إيران لاحقا لتحسين الاتفاق القديم.”
ولكن الإيرانيين يرفضون حتى مناقشة اتفاقية أكبر. ويقول المسؤولون الأميركيون إنه لم يتضح بعد ما إذا كانت إيران تريد حقًا العودة إلى الاتفاق على الصفقة القديمة، التي كانت مثار انتقاد من المتشددين الأقوياء في الداخل الإيراني. فمع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية بعد ستة أسابيع، يروج الفريق المعتدل نسبيًا في إيران المكون من الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف بأن اتفاقًا على وشك الحدوث. وقال روحاني للإيرانيين يوم السبت الماضي “لقد تم رفع جميع العقوبات الرئيسية تقريبًا”، في إشارة على ما يبدو إلى الخطوط العريضة الأميركية لما هو ممكن إذا أعادت طهران إلى التقيد بالقيود الصارمة على إنتاجها النووي.
ولكن حتى لو حدث ذلك، فإن السؤال بشأن ما إذ كانت حكومة إيرانية جديدة متشددة ستلتزم بمزيد من المحادثات مع واشنطن لإطالة الصفقة وتعزيزها هو سؤال يجد المسؤولون الأميركيون صعوبة في الإجابة عنه. لكن مساعدي بايدن يقولون إن استراتيجيتهم تستند إلى فكرة أن استعادة الصفقة القديمة مع إيران ستخلق وحدة دولية أكبر، خاصة مع الأوروبيين الذين اعترضوا بشدة على قرار ترامب الانسحاب من صفقة كانت ناجحة مع إيران.
غير أن كلا من إيران والولايات المتحدة تعملان في ظل قيود سياسية دقيقة. حتى في الوقت الذي دعم فيه المرشد الأعلى لإيران، آية الله علي خامنئي، محادثات فيينا، فإن روحاني وظريف يتعرضان للسخرية من قبل المحافظين الأقوياء الذين لا يثقون في واشنطن والذين يتوقع أن يصلوا إلى سدة الرسائة الإيراني في حزيران/يونيو القادم.
في مقابل ذلك أيضا، يتعين على السيد بايدن التعامل مع كونغرس أميركي يشك بشدة في أهمية التوصل إلى صفقة جديدة مع إيران ويتعاطف إلى حد كبير مع مخاوف إسرائيل من التوصل إلى هكذا اتفاق.
مسألة العقوبات التي تريد إيران رفعها عنها من قبل الولايات المتحدة هي مسألة عويضة فعلا هي الأخرى. علينا أن نتذكر أن ترامب فرض أو أعاد فرض أكثر من 1500 عقوبة على إيران في محاولة لمنع تجديد الاتفاقية معها. تم وضع العقوبات في ثلاث سلات – خضراء وصفراء وحمراء، اعتمادًا على مدى وضوح عدم انسجامها مع الصفقة. سيتم رفع عقوبات اللون الأخضر. ويجب التفاوض على عقوبات اللون الأصفر؛ أما عقوبات اللون الأحمر فستبقى إلى الأبد، بما في ذلك، على سبيل المثال، العقوبات المفروضة على مسؤولين إيرانيين بسبب انتهاكات حقوق الإنسان.
إن تحديد العقوبات التي سيتم رفعها عن إيران هو أمر حساس من الناحية السياسية لكلا البلدين. على سبيل المثال، في الفئة الصفراء، تصر إيران على وجوب رفع عقوبات ترامب على بنكها المركزي بموجب قائمة الإرهاب الذي وضع ترامب بنك إيران المركزي عليها، لأنها تلحق الضرر بالتجارة الإيرانية. لكن المسؤولين قالوا إن رفع واشنطن التصنيف الإرهابي عن الحرس الثوري الإسلامي القوي سيكون أكثر تعقيدًا. موافقة الإيرانيين على صفقة لا تحسم تسمية الحرس الثوري في خانة الإرهاب سيكون أمرًا صعبًا حتى بالنسبة للمرشد الأعلى، الذي يدعم المفاوضات الأميركية الإيرانية حتى الآن.
وإضافة إلى ذلك، وإن بدرجة أقل، ففي خلفية كل هذه التعقيدات في المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة، يلقي الإسرائيليون بظلهم الثقيل على المحادثات من خارجها، عبر مواصلتهم حملة التخريب والاغتيالات التي ينفذونها لتعطيل البرنامج النووي الإيراني – وربما المفاوضات نفسها.
لكن السؤال المطروح هو كيف يجعل بايدن إيران تتحرك للتفاوض على اتفاق أفضل أو جديد؟ ليس لدى المسؤولين الأميركيين إجابة حقيقية عن هذه المعضلة فيما يحاولون إحياء الصفقة القديمة، لكنهم يؤكدون أن إيران أيضًا تريد فوائد أكبر من الصفقة القديمة، لذا يجب أن تكون على استعداد لمزيد من المفاوضات. وهذه هي معضلة المفاوضين الأميركيين والأميركيين الأساسية.
بالنهاية، وباعتقادي المتواضع، لن يكون أمام قيادة إيران الحالية وإدارة بايدن سوى التوصل إلى اتفاق يعيد الولايات المتحدة بصورة أو بأخرى إلى التقيد بالاتفاق الأميركي الإيراني القديم خلال فترة لا تزيد عن شهر. وإذا لم يحدث ذلك، فإن فريق المتشددين في إيران سيفوز في الانتخابات المقبلة في إيران، ما سيعقد على إدارة بايدن التوصل إلى اتفاق أفضل ما مع إيران، وهو هدف أساسي لسياسة بايدن الخارجية. اعتقاد إدارة بايدان هو أن عدم التوصل إلى اتفاق الآن سيؤدي إلى دفع البرنامج النووي الإيراني قدما، ما سيؤدي إلى تغيير كل قواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط التي لا تريد أن تنفق عليها ذلك الكم الكبير من الوقت لتضاؤل أهميتها الاستراتيجية لللمصالح الأمنية القومي للولايات المتحدة.
باختصار شديد، النظام الإيراني مخنوق ماليا وسياسيا، وإدارة بايدن تواقة لأن تنجز اتفاقا مع إيران وبالسرعة الممكنة.