بقلم: مفيد الديك
الإعلامى المخضرم.. والدبلوماسى الأمريكى البارز
ذبحوك يا لبنان … من الوريد إلى الوريد. خنقوك، شنقوك وجلسوا يتفرجون عليك بابتسامة بلهاء. جعلوا ابتسامتك البهية دمعة حزينة؛ حولوا أناقتك أسبالا عتيقة كالحة، قتلوا ثقافتك، ومحوا حضورك الطاغي في كل أصقاع هذا الوطن المصطنع. حولوك يا لبنان من موطن لكل ثوار العرب، ومفكري العرب، وكتاب وشعراء وفلاسفة العرب المعارضين في أوطانهم إلى مخيم كبير للاجئين العرب، والمتسولين والمتسولات العرب، وأفقر الفقراء العرب والباحثين العرب عن هجرة إلى بلد غير عربي وجواز سفر أجنبي.
وصلت بيروت منذ يومين، وهالني ما رأيت. صُدمت، حزنت، تألمت وتملكني شعور طاغ وعميق بالاكتئاب. طوابير الناس المتعبين على أبواب المؤسسات الخيرية لأخذ ما يمكن أخذه من الخبز والزيت والحليب، وعلى أبواب المحلات التجارية لأخذ ما يمكن أخذه من السلع المدعومة حكوميا. رأيت الألم والحزن في أعين الناس وملبسهم، بل حتى في أطواق قمصانهم وأحذيتهم. رأيت الألم والحزن والشقاء في كل شيء – في واجهات المحلات المغلقة الأبواب، في الشوارع المكسرة الأرصفة، في الغبار الذي يلف المكان، في عشرات المتسولين والمتسولات والرضع في شارع الحمرا.
شارع الحمرا وسط بيروت الغربية كان يوما عنوانا للأناقة والحداثة والثقافة. كان المكان الذي تجد فيه أحدث عناوين الأناقة ربما في الشرق كله؛ كنت تجد فيه أحدث الأزياء والموديلات والأحذية الأنيقة ربما حتى قبل أن تنزل هذه في شانزيلزيه باريس ومانهاتن نيويورك، كنت تجد فيه أحدث الكتب، بل أجمل الكتب، وكل الكتب الممنوعة في عواصم هذا الوطن الكئيب، المنغلق، المكسور، السائر بلا بوصلة إلى المجهول. بات شارع الحمرا الآن وكأنه شارع في مخيم لاجئين كئيب – نصف محلاته مغلق والآخر ينتظر الإغلاق. بات كئيبا، باليا، حزينا، مظلما، مهلهلا يكسو الفقر جبينه كبقية لبنان البهي، الذي كان المشعشع الأضواء، لبنان اللعوب، الذي كان يستعصي على الفهم، ولكنك تعشقه من أول نظرة. وإن عشقته مرة، لا تستطيع إلا أن تظل تحبه، وتعشقه حتى في فقره وبؤسه وكآبته.
هذا اللبنان البهي، الجميل الأنيق، اللعوب بكامل ماكياجه وعطره، تحول إلى بلد آخر، بلد ككل البلدان في هذه المنطقة الكئيبة، الطافية في البحر بلا قبطان وبلا خارطة طريق. لا أحد يعرف أين يسير اليوم هذا اللبنان الجميل، الجريء، الخطير، الثوري، اللعوب، المتنور، والثوري الأصيل. هذا اللبنان الذي كان يحتضن كل الثوار العرب، وكل المثقفين العرب وكل المارقين العرب، الذين كانوا يهربون من قمع وظلم أنظمتهم إلى دفء حضنه كلما أغلقت في وجوههم سبل العيش والنشر والحرية والحب الجريء، بل والحب البريء في بلدانهم. كانوا يأتون إليه لاهثين، خائفين، مطاردين، منبوذين، مذعورين، جائعين وعشطين من أوطانهم المصطنعة، فقط لأنهم لأنهم كانوا يحاولون أن يفكروا بحرية ويكتبوا بحرية، وينشروا قصائدهم الخارجة على القانون بحرية. هذا اللبنان احتضن أعظم شاعرين عربيين في العصر الحديث – نزار قباني ومحمود درويش. هذا اللبنان الكئيب، الفقير، الجائع، المغبر اليوم كان الحضن الدافىء لهذين الشاعرين حين كتبا أجمل أشعارههما – قصيدة “أيها الناس” لنزار و”أحمد العربي” لمحمود.
هذا اللبنان الجميل بـ 10,450 كيلومترا مربعا فقط وبملايين سكانه الستة فقط، لبنان الذي كان العرب يأتون إليه، يعاشرونه، يضاجعونه، يتلذذون فيه بأجمل الموسيقى والطرب، وأطيب الطعام وألذ الشراب، ويساهرون فيه أروع النساء وأجمل النساء وأبهى وأذكى النساء. هذا اللبنان تخلى عنه العرب برمشة عين وتركوه يموت ببطء وصمت كئيب. هذا اللبنان تُرك وحيدا كيتيم رضيع مات أبواه في انفجار في لبنان أو حتى في حادث سيارة. يا للعيب على هذه الأمة! يا لبؤس وشقاء هذه الأمة الجاحدة! هذا اللبنان العظيم بشعبه العظيم، من مسيحيين أرثوذكس وأرمن وموارنة وكاثوليك ومسلمين من شيعة وسنة وأعراق من كل أصقاع الأرض من أرمن ودروز وأكراد وتركمان وفلسطينيين وسوريين وعراقيين ومصريين بل ومغاربة وسعوديين، ركعتموه وتركتموه ينتحب ويحتضر على قارعة الطريق كقطة فقدت صاحبها وبات عليها أن تتدبر أمور عيشها لوحدها فقط لكي تبقى على قيد الحياة.
هذا اللبنان بجنوبه – من صيدا وصور وبنت جبيل والنبطية وأنصار ومركبا وتبنين وبنت جبيل والنبطية ومرجعيون والناقورة، وبشماله من طرابلس إلى بشري إلى إهدن وتنورين وكفر حلدا وحدث الجبة، وبسطه من بيروت إلى عاليه وصوفر وبحمدون – كان يشع جمالا وبهاء وثقافة وطيبة لا مثيل لها. كنت لا تكاد تميز بين مواطنيه لا من ناحية الدين أو الطائفة ولا من ناحية العرق والإثنية. كانوا يشعرونك بأنهم شعب واحد وتراث واحد وثقافة واحدة ورائحة واحدة. ثم انقلب كل شيء.
هذا اللبنان الذي صمد أمام أعتى آلة حرب في الشرق الأوسط، إسرائيل، التي غزته عدة مرات، محاولة تدمير كبريائه وشبابه وجماله وتعدديته الإثنية والدينية والطائفية. هذا اللبنان الذي خرج من تحت أنقاض حرب أهلية مدمرة، طاغية، قاسية، بدأت بين “الوطنيين” و”غير الوطنيين”، وانتهت حربا طائفية بغيضة دامت ما يقرب من 20 سنة دمرت الأخضر واليابس. هذا اللبنان بنمط حياته السياسية الذي قد يكون الأقرب إلى الأنظمة الديمراطية الغربية الليبرالية بحرية الفكر والكلام والتأليف والفن والنشر فيه كان مرفوضا من قبل الحكام في المنطقة بقدر ما كان محبوبا من شعوبهم. من من العرب لم يكن يغار من صحافة لبنان وفن لبنان وحضارة لبنان وتعددية لبنان وسلمية لبنان؟ من العرب لم يكن يحلم بأن يقضي صيفه في لبنان؟ من العرب لم يكن يحلم أن يتملك بيتا جبليا صغيرا في جبل لبنان ليذوق حلاوة العيش وطراوته وطيبته؟ من من العرب لا يستمتع بفن السيدة فيروز ووديع وطوني؟ مَن مِن العرب ومَن مِن العرب؟؟؟
في البدء كانت التدخلات العربية وغير العربية في الداخل اللبناني هي التي تحرق وتدمر لبنان وتقضي بصبر وبرودة أعصاب على هذا النسيج الاجتماعي والسياسي اللبناني الفريد. حينها كنا نحن الذين نحب لبنان نهب للدفاع عنه بكل ما تيسر لنا من أدوات. كان ملوك الطوائف هم الذين يسهلون تدخل الأجنبي في داخلهم، ولكن المحزن هذه المرة أن ملوك الطوائف هم الذين يدمرون لبنان بأيديهم، والأكثر إيلاما أن الكثير من اللبنانيين أنفسهم يلتفون حول هؤلاء لتدمير هذا البلد العظيم، هذا النموذج العظيم، الفريد في هذه المنطقة. وكأن حالهم يقول، لا نريد هذا اللبنان بعد اليوم، ولا هذا النموذج وليلتحق لبنان بكل الدويلات والأوطان المصطنعة في هذه المنطقة الكئيبة، الممزقة، الغراقة في سبات عميق.
أملي في شعب لبنان كبير جدا ولا حدود له. فهل يفاجئنا اللبنانيون مرة أخرى وينهضون ثانية من تحت الأنقاض لإعادة بناء هذا اللبنان الذي هو ولا أجمل ولا أروع ولا أبهى؟
ختاما، ربما ليس هناك أبلغ ولا أروع ولا أصدق ولا أوجع من كلمات شاعرنا العظيم نزار قباني في اعترافاته بما فعلنا بلبنان. وإن كان كلام نزار هذا هذا عن بيروت وجاء في مرحلة أخرى كان فيها لبنان قد بدأ يلعق جراحه ويخرج للتو من تحت أنقاض حربه الأهلية المدمرة في أوائل تسعينات القرن.
نعترفُ أمامَ اللهِ الواحدِ ..
أنّا كُنّا منكِ نغارُ ..
وكانَ جمالكِ يؤذينا ..
نعترفُ الآنَ ..
بأنّا لم ننصفْكِ .. ولم نعذُرْكِ .. ولم نفهمْكِ ..
وأهديناكِ مكانَ الوردةِ سِكّينا …
نعترفُ أمامَ اللهِ العادلِ …
أنّا راودناكِ ..
وعاشرناكِ ..
وضاجعناكِ ..
وحمّلناكِ معاصينا ..
يا ستَّ الدنيا، إن الدنيا بعدكِ ليستْ تكفينا ..
الآنَ عرفنا .. أنَّ جذوركِ ضاربةٌ فينا ..
الآنَ عرفنا .. ماذا اقترفتْ أيدينا ..