السفیر ناصر کنعانی
سفير الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة بالقاهرة
أثناء زیارته التی تمت إلى مصر مؤخرًا وأثناء حواره مع قناة “إم بی سی” أجاب قائد القیادة المرکزیة الأمریکیة “سنتکام” کنت مکینزی على سؤال مذیع القناة مُدعیًا أن إیران هی التهدید الأکبر الذی تواجهه منطقة “سنتکام” حیث وفقً زعمه أن إیران تقوم بتصدیر الإرهاب وصناعة الصواریخ البالیستیة المهددة لجیرانها، واعتبر مکینزی أن کبح إیران یُمثل أهمیة کبیرة للقوات التی یرؤسها، وفی جزء آخر من تصریحاته أعلن أن أهم ما یشغل قواته فی الوقت الحالی هو الانسحاب التدریجی للقوات الأمریکیة من أفغانستان بالإضافة إلى موضوع العراق وسوریة وما أسماه بالتهدیدات الناتجة عن التحرکات الإیرانیة.
وهنا ارید أن أستعرض بعض الملاحظات من أجل استنارة أفکار کل من سمع الاتهامات التی وجهها “کنت مکینزی” لإیران.
تبلغ الموازنة السنویة الإجمالیة العسکریة لإیران أقل من 13 ملیار دولار وهی الدولة التی یبلغ عدد سکانها حوالی 85 ملیون نسمة وتقع فی منطقة ممتلئة بالأزمات والصراعات، والآن دعونا نقارن هذه الموازنة مع الموازنات العسکریة لبعض الدول والاطراف الأخرى التی تقع مع إیران فی نفس المنطقة.
وفقًا لما أعلنه مرکز أمریکی یُسمى “المؤسسة الدولیة للدراسات الإستراتیجیة” (IISS) فقد بلغت الموازنة العسکریة للملکة العربیة السعودیة (والتی یبلغ عدد سکانها 33 ملیون نسمة) فی عام 2019م ما یقرب من 78.4 ملیار دولار، وبهذا فهی الأولى على المنطقة من حیث قیمة الموزانة العسکریة والثالثة عالمیًا! کما تبلغ موازنة الکیان الصهیونی العسکریة (وعدد نسماته أقل من 7 ملیون یهودی) للعام ذاته 22.6 ملیار دولار، وإذا نظرنا للموازنة العسکریة الإیرانیة (یبلغ عدد سکان إیران 85 ملیون نسمة) سنجد أنها أقل من 13 ملیار دولار (12.623)، وبناءًا على ذلک فإن الموازنة العسکریة الإیرانیة لعام 2019م حوالی ربع الموازنة العسکریة السعودیة للعام نفسه! وفی هذا الترتیب لا تتبوأ إیران مکانًا حتى بین ال25 دولة الأولى فی الإنفاق العسکری، جدیر بالذکر أن الموازنة العسکریة الأمریکیة لعام واحد هی 732 ملیار دولار!
أما تقریر معهد ستوکهولم الدولی لأبحاث السلام (سیبری)* فقد أزاح الستار بشفافیة عن حقائق صادمة حوتها صفقات عسکریة عالمیة خلال فترة الخمس سنوات ما بین 2015 إلى 2019م، وفقًا لهذا التقریر وخلال فترة الخمس سنوات:
– ارتفعت نسبة استیراد دول الشرق الأوسط للأسلحة بنسبة 61%، بینما کان 35% من مُعدل الشراء العالمی خلال الفترة نفسها.
– تستحوذ الریاض وأبو ظبی والدوحة على الحصة الأکبر من واردات الأسلحة العالمیة.
– شهدت المملکة العربیة السعودیة زیادة بنسبة 130% فی واردات الأسلحة مقارنة بالفترة الماضیة نفسها، حیث ذهب 12% من جمیع الأسلحة المباعة فی العالم إلى الجیش السعودی.
– خلال الفترة ذاتها (منذ بدایة حرب الیمن) فقد وفرت أمریکا 73% وبریطانیا 13% وفرنسا 4.3% من الأسلحة التی اشترتها السعودیة.
– فیما استحوذت الإمارات على 3.4% من إجمالی مبیعات السلاح فی العالم، حیث اشترت 68% من أمریکا و11% من فرنسا.
– فی الوقت نفسه استحوذت قطر على 3.4% من إجمالی مبیعات الأسلحة فی العالم، بزیادة 63 فی المائة عن فترة مشابهة، وکانت 50% من مشتریاتها من الولایات المتحدة.
– کما کان للکیان الصهیونی نسبة 2% من مبیعات السلاح فی العالم وهو ما یمثل زیادة بنسبة 181% عن فترة الخمس سنوات التی سبقت الفترة التی ارتکز علیها البحث، وکان 78% من مشتریاتها من أمریکا.
– باعت أمریکا أسلحة بالجُملة إلى 96 دولة حول العالم، وقد ذهبت نصف مبیعات أمریکا من السلاح خلال هذه السنوات إلى الشرق الأوسط، وربعها إلى السعودیة خاصة.
یبلغ عمر حکومة الولایات المتحدة حوالی 240 عامًا، فی حین أن إیران لیس لها تاریخ من العدوان أو الهجوم العسکری ضد أی دولة خلال حیاة الحکومة الأمریکیة ال(240 عامًا)، بینما الولایات المتحدة شنت ما یقرب من مائة تحرک عسکری وغیر عسکری على بقیة الدول المستقلة فقط خلال فترة منتصف القرن العشرین حتى الآن! وتشتمل هذه التحرکات الانقلابات العسکریة والتخطیط لتنفیذ عملیات إسقاط أنظمة الدول والهجوم العسکری المباشر واحتلال الدول وغیرها، جعل عمل الحکومة الأمریکیة فی الهجومین النوویین على هیروشیما وناجازاکی بالیابان یومی 6 و 9 أغسطس 1945م، الولایات المتحدة الدولة الأولى والوحیدة التی تستخدم القنبلة الذریة فی التاریخ البشری وقد تسبب هذا القصف فی إبادة جماعیة نوویة لهاتین المدینتین، بعد نهایة الحرب العالمیة الثانیة اتبعت أمریکا سیاسة التدخل فی أقصى نقاط العالم رسمیًا، وهذا من أجل السیطرة على العالم، وأصبح التدخل هو الطبیعة المُسیطرة على سیاستها الخارجیة من أجل فرض هیمنتها على العالم.
منذ التأسیس غیر الشرعی للکیان الصهیونی فی عام 1948م، أصبحت الولایات المتحدة تدریجیاً داعماً رئیسیاً لهذا الکیان ولعملیاته العسکریة واحتلاله وأصبح الدعم المطلق للنظام الإسرائیلی المحتل على مدى عقود مبدأً غیر قابل للانتهاک فی السیاسة الخارجیة الأمریکیة، فقد کانت الولایات المتحدة متورطة بشکل مباشر وغیر مباشر مع إسرائیل فی احتلال جنوب لبنان وبیروت عام 1982م، کما کانت الولایات المتحدة المُشجعة والداعمة رسمیًا للکیان الغاصب فی حرب ال33 یومًا فی صیف عام 2006 ضد لبنان، ووصفت وزیرة الخارجیة الأمریکیة المُتعطشة للحرب والتابعة لتیار المحافظین الجدد کونالیزا رایس عملیات القتل المروعة للمواطنین والأطفال اللبنانیین جراء قصف الکیان الصهیونی للمدن اللبنانیة بأنها مخاض ولادة الشرق الأوسط الجدید!
کانت الحکومة الأمریکیة من الداعمین الأصلیین للهجوم البعثی العراقی على إیران فی عام 1981م والذی استمر 8 سنوات، وطوال هذه الحرب قامت أمریکا بأعمال عسکریة ضد أهداف عسکریة وغیر عسکریة إیرانیة بشکل رسمی فی الخلیج الفارسی، وفی نهایة الأمر فی الثالث من یولیو عام 1988م قامت باستهداف وإسقاط الطائرة المدنیة الإیرانیة التی کانت تُقل أکثر من 290 مسافر عبر صاروخ انطلق من مدمرتها العسکریة فینسنس.
دخل التدخل الأمریکی فی العالم وخاصة فی منطقة الشرق الأوسط وشمال إفریقیا مرحلة جدیدة منذ بدایة الألفیة الثالثة بالتزامن صعود المحافظین الجدد المتشددون إلى السلطة وجهودهم لتعزیز قیادة أمریکا بلا منازع على العالم.
منذ عام 2001م نفذت الحکومة الأمریکیة رسمیًا هجمات عسکریة غیر قانونیة وغیر مصرح بها ضد أفغانستان (2001م) والعراق (2003م) ولیبیا (2011م) وسوریة (2011م) وتواصل تنفیذ هذه الهجمات بشکل مباشر وغیر مباشر.
فی سوریا، بالإضافة إلى الدعم المباشر والشامل للإرهاب التکفیری فقد نفذت العدید من الهجمات العسکریة، وباحتلالها لجزء من أراضیها، أقامت قواعد ومقرات عسکریة بشکل غیر قانونی ونشرت فیها قوات عسکریة رغم معارضة الحکومة السوریة!
بالطبع خلال هذه السنوات کان تدخل الولایات المتحدة فی الثورات الملونة فی آسیا الوسطى والقوقاز حالة مفصلة أخرى تتطلب وصفًا مفصلًا.
والسؤال الآن هو من الذی یسبب انعدام الأمن فی المنطقة والعالم ومن الذی یستفید من التحریض على انعدام الأمن والاستقرار.
یعرف العالم أن الولایات المتحدة مسؤولة عن انعدام الأمن لیس فقط فی الشرق الأوسط وشمال إفریقیا ولکن فی العالم ککل، لذا فإن اتهام مکینزی لإیران وهو یترأس “خلیة سینتکوم الإرهابیة” هو اتهام سخیف ولا قیمة له.
لطالما کانت جمیع المساعی الأمریکیة خلال الأربعة عقود الماضی ترمی إلى إسقاط النظام فی إیران، وهذا بسبب أن إیران لا تقبل هیمنة أمریکا والصهاینة على المنطقة وتعتقد بضرورة انسحاب أمریکا من المنطقة والتحریر الکامل والشامل لفلسطین من البحر إلى النهر.
أمریکا فی حاجة دائمة إلى خلق الأزمات والتوترات فی المنطقة حتى تتمکن من بیع أسلحتها وهذا ما تُظهره إحصائیات مؤسسة سیبری جیدًا، فطوال تاریخ الولایات المتحدة السیاسی لم تحظ أبدًا بالصلاحیة الأخلاقیة التی تُمکنها من قیادة أو حتى المشارکة فی الأمن الإقلیمی والدولی، وهذا لأنها تنتهج سیاسة خلق التوترات والأزمات من أجل الهیمنة على العالم، وهذا یُوضح لنا أن على کل من یبحث عن أمن بلاده ومنطقته عبر التعاون مع أمریکا أن یعلم أنه قد شید قصرًا على الماء ویسلم بیته الآمن للسارق.
والسؤال هنا ما هی آلیة العبور من حالة انعدام الاستقرار فی المنطقة والعبور من أمریکا؟ الإجابة واضحة وهی عودة دول المنطقة إلى الاعتماد على العناصر الوطنیة والإقلیمیة لتشکیل قوة وطنیة وعقد مباحثات وتعاون إقلیمی مشترک.
لقد أظهرت الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة حُسن نیتها فی هذه المجالات بصفتها قوة إقلیمیة مسئولة، کما تحظى إیران بطبیعة جیوسیاسیة مترابطة مع العالم العربی، و تعرضت إیران خلال الأربعین سنة الماضیة إلى هجوم عسکری مُباشر لمدة 8 سنوات من الجغرافیا المجاورة، ومع ذلک تؤمن إیران وتصر على ضرورة إیجاد حل إقلیمی للخروج من الوضع الإقلیمی المتوتر حالیًا وقطع ید التدخلات والنهب الأمریکی. فبدلًا من شراء الأسلحة بعشرات الملیارات وتحویل المنطقة إلى مخزن سلاح أمریکی وأوروبی والتحالف مع الکیان الصهیونی الغاصب، علینا التفکیر فی التنمیة الإقلیمیة عبر استغلال الإمکانات الاقتصادیة العظیمة مثل الطاقة والشحن والتجارة، ومن أجل تحقیق هذا الهدف فلطالما رحبت إیران بالمبادرات الإقلیمیة بل وقدمت هی نفسها بعضا من المبادرات الإقلیمیة الأخرى.
– رحبت إیران بمبادرة عام 2016م التی قدمها المرحوم الفقید الشیخ صباح الأحمد أمیر الکویت السابق إلى الدول المعنیة فی المنطقة والتی رکزت على حل الخلافات الإقلیمیة، هذا على الرغم من تنحیة المبادرة بعد تسلم “ترامب” الرئیس الأمریکی المُغامر السلطة.
– فی عام 2019م، کشفت إیران رسمیًا عن مبادرة “سلام هرمز” أو “تحالف الأمل” فی الأمم المتحدة، تم تسلیم تفاصیل هذه الخطة رسمیًا لدول منطقة الخلیج الفارسی، حتى البحرین والمملکة العربیة السعودیة، تستند خطة هرمز للسلام إلى مبادئ مهمة مثل الالتزام بأهداف ومبادئ الأمم المتحدة والاحترام المتبادل والمصالح المتبادلة والمکانة المتساویة والحوار والتفاهم واحترام سیادة الدول ووحدة أراضیها وعدم التعرض للحدود الدولیة والتسویة السلمیة لجمیع الخلافات والأهم من ذلک هناک مبدآن أساسیان: “عدم الاعتداء” و “عدم التدخل فی الشؤون الداخلیة للآخر”، لا زالت إیران تعتقد أن هذه المبادرة من شأنها أن تکون حلًا بناءًا قائمًا على المصالح المشترکة لجمیع دول المنطقة وأن توفر السلم والأمن الدولیین.
– حتى أن الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة قد رحبت باقتراح روسیا بشأن “مراجعة شاملة للوضع فی الخلیج الفارسی”، وحضر وزیر الخارجیة محمد جواد ظریف اجتماعًا افتراضیًا لمجلس الأمن فی أکتوبر 2020، کما شارک العراق وقطر فی هذا الاجتماع، لکن لم تحضر الدول الأخرى المعنیة بهذا الاقتراح من ضمنها السعودیة!
– وفی البند الثامن من القرار 598 الذی نص على نهایة الحرب العراقیة ضد إیران، تم أیضًا تحدید مهمة للأمین العام للأمم المتحدة بأن یرؤس مفاوضات بین إیران والعراق ودول المنطقة، وقد ذکرت إیران الأمم المتحدة والأطراف الإقلیمیین بهذا الموضوع بصفته خیارًا إقلیمیًا، لکنهم لم یعیرو الموضوع انتباهًا، ولکن بالطبع قد یکون الرجوع للقرار رقم 598 الذی ینص على إنهاء الاعتداء العسکری المهزوم صعبًا على بعض دول المنطقة وهی التی صرفت ملیارات الدولارات دعمًا لنظام “صدام حسین” خلال حرب الثمان سنوات ضد إیران!
تبعد أمریکا 7600 میلًا عن المنطقة وبیتنا المشترک، الحکومة الأمریکیة تبحث عن أمنها واستمرار بیع أسلحة مصانعها عبر زعزعة الأمن فی الخلیج الفارسی والشرق الأوسط وشمال أفریقیا، ولن تکون أبدًا شریکًا من أجل السلام والأمن.