تقرير: أبو بكر أبو المجد
في 26 فبراير الماضي، عقد رئيس جمهورية أذربيجان إلهام علييف، مؤتمرًا إعلاميًا مع العديد من مندوبي ومراسلي الوسائل الإعلامية من عشرات الدول حول العالم، تناول فيه الإجابة على العديد من الأسئلة وكذا صرح بالعديد من الأخبار ووجه العديد من الرسائل للقيادة الأرمينية، وكذا الدول المعنية بالأمن في منطقة القوقاز.
لكن ما لم يتوقف عنده العديد من وسائل الإعلام التي لفت انتباهها الشديد اللغات الأربع التي كان يجيب بها الرئيس علييف على أسئلة الإعلاميين، والصحفيين، بكل طلاقة، أن رئيس أذربيجان كشف عن خطة إستراتيجية وضعت بعناية شديدة، ونفذت بمنتهى الدقة والسرية؛ بالرغم من أنها استغرقت ما يقرب من ثلاثة عقود!
أمر معجز بحق القيادة الأذرية من دون شك؛ لكن كي تجني القيادة ثمار هذه الخطة كاملة، فلا بد أن تنتبه لأمر هام سنتحدث عنه في ختام قراءتنا لمؤتمر علييف.
بيان 10 نوفمبر
في حديثه إلى وسائل الإعلام العالمية، يوم 26 فبراير الماضي، أكد الرئيس إلهام علييف، أنه مطمئن لتنفيذ بنود بيان العاشر من نوفمبر. فما هي أهم نصوص هذا الاتفاق؟
دخل اتفاق 10 نوفمبر الموافق الاثنين، حيّز التنفيذ في الساعة التاسعة من مساء يوم التوقيع بتوقيت غرينتش، وبموجبه تحتفظ أذربيجان بالأراضي التي سيطرت عليها قواتها في ناغورنو كاراباخ في قتال الـ44 يومًا.
كما نص الاتفاق على عودة (مقاطعات أغدام وكلبجر ولاشين) إلى أذربيجان في موعد أقصاه الأول من ديسمبر، وهو ما تم بالفعل.
إضافة إلى نشر قوات روسية وتركية لحفظ السلام ومراقبة سير تنفيذ الاتفاق على الخطوط الأمامية، بالإضافة إلى تبادل للأسرى، كما نص على “فتح كل الاتصالات الاقتصادية وسبل النقل”.
كانت هذه أبرز نقاط الاتفاق بين أذربيجان وأرمينيا والذي رعته روسيا؛ وبالرغم من حالة السعادة التي ملأت قلوب الأذريين بهذا الانتصار الساحق لقوات جيش أذربيجان؛ غير أن القيادة الأذرية برئاسة القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس إلهام علييف، والذي كشف عن ثقته في قدرة جيش بلاده على إجبار الطرف الأرميني على تنفيذ كل بنود الاتفاق؛ لكن لم يخف شعوره بالقلق، واستعداداته لأية مفاجآت أرمينية، واعتقد أني لمستها من خلال كلمات الرجل وعباراته الدقيقة.
فحين يقول في معرض رده على سؤال مراسل وكالة الأناضول: “”بعض هذه القضايا قيد التنفيذ وبعضها لم يتم تنفيذه بعد.. أكرر، هناك بعض القضايا التي لا تأخذها قوات حفظ السلام الروسية على محمل الجد عند دخول مواطنين أجانب إلى أراضينا.. هذا يقلقنا وننقل هذا القلق للجانب الروسي. أنا متأكد من أنه بمرور الوقت، سيتم حل هذه القضايا”.
هذا التصريح يعني أنك أمام قائد حذر.. يتحسس خطاه.. مدرك أن الروس أقرب للأرمن، وأن ثمة تساهلات روسية مع الجانب الأرميني يمكن أن تحدث، ويمكن أن تزعج أيضًا وبشدة قيادة أذربيجان.
قطعًا القائد الذي يصرح بمثل هذا التصريح، ولا غرو أنه رئيس الجمهورية، يعني أننا أمام رجل يملك خطة بديلة دائمًا حال وقوع أي خرق للاتفاق من الجانب الآخر، وأنه مراقب جيد للغاية لكل صغيرة وكبيرة تجري على الأراضي التي تم انتزاعها من المحتل الأرميني، ومتأهب للتعامل مع أي تطورات على الأرض صغيرها قبل كبيرها.
لكن عبقرية العبارة الدبلوماسية، كانت واضحة في قول الرئيس علييف: “إني واثق من أن مركز المراقبة هذا سيساهم بشكل كبير في تعزيز الاستقرار ووقف إطلاق النار في المنطقة.. كرئيس لجمهورية أذربيجان، أود أن أقول إن أذربيجان لن تتخذ أي خطوات عدوانية.. لم نقم بذلك قط، ولا داعي لذلك اليوم..”.
فالرئيس في الوقت الذي يشير إلى تساهلات روسية في عبور أو تسريب أجانب من الأرمن بالطبع، وبالتالي عدم ثقته الكاملة على الأقل في حياد الروس، إلا أنه حث الجانب الروسي على القيام بأقصى جهوده لتعزيز الاستقرار ووقف إطلاق النار بإشارته إلى ثقته في أن الروس سيقومون بذلك.
كما أكد على أن أذربيجان أبدًا لم تبدأ في أي من مراحل الصراع مع أرمينيا لاستعادة الحق بأي مبادرة عدوانية، وهي كلمات بسيطة لكنها في السياق ومهمة للتوثيق التاريخي، وبالتالي من المنطقي أن الدولة التي صبرت ولم تبدأ بأي عدوان على الجانب المحتل، لن تبادر أبدًا اليوم بالعدوان وقد استعادت أراضيها وانتصرت على عدوها.
عين على العدو
لتهدئة الرأي العام في أرمينيا ورفع الروح المعنوية لجيش الاحتلال، تدعي القيادة الأرمينية الآن من أن الأسلحة التي أعطيت لهم كانت عديمة الفائدة!
هذا ما أشار إليه الرئيس إلهام علييف، وعلق قائلًا: “الأسهل إلقاء اللوم على الآخر أكثر من أي شيء آخر. ومع ذلك، يجب أن يقولوا أيضًا إن هذه الأسلحة أعطيت لهم مجانًا لمدة 30 عامًا لتسليحهم ضدنا”.
لكن أخطر ما صرح به موجهًا حديثه لأسر الشهداء، ومطمئنًا لشعبه، ومبينًا إلى أي مدى بلغت قدرة الرصد للعدو، وقوة العين المتموضعة عليه. فقال علييف: “إننا نستخدم الآن جميع الفرص لمراقبة العمليات الجارية في المنطقة عن كثب ولدينا فرص ولدينا مصادر معلومات كافية.. نحن نعرف عدد الأسلحة المجانية التي أعطيت لأرمينيا خلال الحرب وكم عدد الأسلحة التي أعطيت قبل الحرب مباشرة بعد اشتباكات 17 يوليو حتى اليوم الأخير من الحرب.. وصلت عدة طائرات محملة بأسلحة مجانية إلى أرمينيا كل يوم..”.
في هذا التصريح العديد من الدلالات التي تشير إلى قدرة أذربيجان الكبيرة في اختراق عدوها، وعلى كل الأصعدة. والواقع يؤكد ما قاله الرئيس، فالانتصار الساحق لم يأت وليد صدفة أبدًا؛ بل قدرة استخباراتية عالية، حتى أصبح العدو كتابًا مفتوحًا تمامًا!
فرصدت العين الأذرية حركات السلاح، وأنواعها، ومن أين تأتي، ونوعيتها وكيف وصلت للعدو، واستعدت كيف تبطل مفعولها أو تقلل من أثرها في حرب الـ44 يومًا.
ويبدو من تصريح علييف، أن الأمر مستمر، وأن النصر لن يوقف استمرار العين الراصدة للتحركات الأرمينية العدائية تجاه أذربيجان وشعبها.
حتى تساؤله الساخر كان تأكيدًا على دقة المعلومات التي لدى القيادة والجيش الأذري عن العدو.. فتساءل قائلًا: “هل اشترت أرمينيا صواريخ إسكندر مقابل المال؟ هل نقلت إليها مجانًا؟ هل اشترت صواريخ “إيلبرزس (Elbrus) وتوشكا أو(Tochka-U) وسكاد (Scud) مقابل المال أم اشتروها مجانًا؟
جميع هذه التساؤلات الساخرة، كانت تأكيدًا على ثقة القيادة العليا للقوات المسلحة في دقة المعلومات التي لديها عن العدو، وإنها في الوقت التي تبعث بمزيد من الثقة الشعبية الأذرية في هذه القيادة، تزرع الفزع والرعب الشديدين في قلب كل أرميني، وخاصة إذا كان محاربًا في جيش أرمينيا.
وحين يشير الرئيس إلى توريد S-300 وتدمير سبع منها فهذا يؤكد على اليد الطولى للجيش الأذري، وكذلك الحديث عن تدمير الدبابات والمدفعية وأنظمة الدفاع الجوي الأخرى، كلها دلالات تبعث بالثقة في النصر وصنّاعه.
أكبر خداع استراتيجي
في مصر تمت أكبر عملية خداع استراتيجي عرفتها العسكرية الحديثة، ذلك لأن مصر صدرت للعدو الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا وأوروبيًا على المستوى العسكري والتصريحات السياسية والظروف الاقتصادية والاجتماعية ما يزرع في قناعات العدو استحالة أن يكون لدى القيادة المصرية أية نية للحرب.
فقامت بإشاعة أن المخزون الاستراتيجي من القمح أغرقت الأمطار أغلبه، وصرحت بالعديد من التصريحات التي تقول بأن عام 1971 سيكون عام الحسم، ثم في العام التالي يطلق الرئيس محمد أنور السادات نفس التصريح، وقبلها وبعدها تصرح لمئات الجنود والقيادات العسكرية بالذهاب إلى الحج، فضلًا عن السماح بإطلاق النكات على القيادة السياسية، والتظاهرات للطلبة في الجامعات، وترك مساحة للصحفيين بالنقد اللاذع، وفي ظل كل هذا يتم اتخاذ قرار الحرب وتحقيق النصر.
لكن في حالة أذربيجان، فنحن أمام أكبر وأطول خطة خداع استراتيجية عرفها التاريخ في تقديري، وما جعلني أقول هذا هو تصريحات الرئيس إلهام علييف، في مؤتمر 26 فبراير الماضي.
البداية كانت عند الأب القائد حيدر علييف، حيث لا فهم عمق الخطة دون الرجوع إليه.
فقد ظل حيدر علييف، والد الرئيس الأذري الحالي، المولود عام 1923 وحاكم البلاد منذ عام 1993 إلى عام 2003، المتخصص في التاريخ والاستخبارات، أحد رجال الاتحاد السوفيتي الأفذاذ، وكم أدي أدوارًا سياسيةً وأمنيةً كثيرةً لصالح الاتحاد، على رأسها دوره في أذربيجان ونخجوان، حتى وقت قريب قبل وصوله إلى السلطة في بلاده.
وظل ولاؤه الأول لروسيا، حتى وصوله إلى السلطة، رغم تدرجه الكبير في المناصب داخل البُنية السياسية للاتحاد السوفيتي، بامتداد عُمره، لأن علاقته أخذت تتدهور مع قيادات رفيعة في الدولة السوفيتية خلال السنوات الأخيرة، قبل انهيار الاتحاد وظهور ما يسمى “رابطة الدول المستقلة” عقب سقوطه، التي تعد أذربيجان أحد أعضائها حاليًّا، وكان على رأس هذه القيادات التي اصطدم معها “ميخائيل غورباتشوف” نفسه.
أكبر الخلافات التي أدت إلى الإطاحة بحيدر علييف خارج البُنية السياسية الرسمية للاتحاد السوفيتي نهاية الثمانينيات، كان بسبب نمو تيار داخلي في الاتحاد يميل إلى موقف سلبي تجاه الاعتداءات الأرمينية على الأقلية الأذرية في قره باغ، بل وتأييد مطالبها في السيطرة السياسية على الإقليم بدعوى مكافحة سياسة تأذير الإقليم وأحقية الأكثرية الأرمينية ورغبتها في الخضوع لحكم أرمينيا، وليس أذربيجان.
أدت مواقف حيدر علييف الحازمة تجاه هذا التيار السوفيتي الجديد إلى تنامي شعبيته السياسية وسط الشعب الأذربيجاني، فبدأ علييف بعد سقوط الاتحاد السوفيتي يؤسس بطانةً سياسية ملائمةً للدولة الحديثة وفق مقتضيات العصر، عبر حزب “أذربيجان الحديثة” الذي دشنه في جمهورية نخجوان ذاتية الحكم، والأقرب إلى أذربيجان، عام 1992، تساعده على تبني سياسات اقتصادية وسياسية منفتحة على العالم الغربي واقتصاد السوق.
ما أدى إلى تبني علييف الأب لهذه السياسات الجديدة المغايرة تمامًا للقيم التي عاش عليها كان إدراكه بحتمية سقوط الاتحاد السوفيتي، وانهيار أحد القطبين، مع استقرار ونجاح القطب الآخر، يعني أن الرهان القادم لا بد أن يكون على الطرف الرابح، وهو الولايات المتحدة، وبالفعل، فإن أذربيجان التي تحدها روسيًا شمالًا، وإيران جنوبًا، وتحتاج إلى التكنولوجيا الغربية لاستخراج النفط والغاز، يمكنها أن تستفيد من الغرب إلى حين الخروج التدريجي من العباءة الروسية، فالإرث السوفيتي في هذه المنطقة والهيمنة السياسية وحدها، تمتد على الأقل، إلى منتصف القرن الثامن عشر، حينما أطاحت روسيا القيصرية بنفوذ الدولة القيجارية (الفارسية) جنوب القوقاز، وقد ساعده في هذا التحول خلافاته الأخيرة مع رموز الاتحاد.
كانت هذه هي البداية.. الخروج من العباءة السوفيتية، وربط مصالح الغرب بأذربيجان ومصالحها، لقطع أول خطوة في طريق الألف ميل نحو استعادة الأراضي المحتلة.
ركز علييف الأب في سنوات حكمه لأذربيجان، التي لم تتجاوز العقد، أي فترتين رئاسيتين وفق الدستور الآذري، التي كانت سنواته الأخيرة في الحياة أيضًا، على الإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد، وفق “روشتة” صندوق النقد والبنك الدوليين.
أدت هذه السياسة إلى قفزة إيجابية كبيرة في معدلات نمو الاقتصاد، حيث، سجلت باكو، سريعًا معدلات نمو تفوق باقي نظيراتها في الدول المستقلة عن الاتحاد، مدفوعة بعقود النفط المبرمة مع شركات النفط الغربية، وفي عام 2002، قُدرت زيادة الموازنة بأنها أكبر بـ85 مرةً، من عام تولي حيدر علييف السلطة في أذربيجان.
لكن بقيت معضلة “قراباغ” التي ترعاها مجموعة “مينسك”، فالمفاوضات تتقدم خطوة وتتراجع عشر خطوات، وما زالت أرمينيا تحتل الإقليم.
قبل وفاة الأب القائد حيدر علييف، عام 2003 عن عمر يناهز 80 عامًا بعدة سنوات، بدأ الأب يُصعد علييف الابن، تدريجيًا إلى السلطة، مستغلًا خلفية نجله الدراسية، الذي درس وتخصص في مجال العلوم السياسية، العلاقات الدولية تحديدًا، ودرسها أيضًا للطلاب في أحد المعاهد المرموقة بروسيا لسنوات.
تدرج علييف الابن المولود عام 1961 في المناصب الرفيعة داخل بلده عقب انتهائه من العمل الأكاديمي في الجامعة خارج البلاد، تحت عناية والده الذي يعرف أن أجله قد اقترب، فعمل في شركة النفط الآذرية الوطنية في منصب قياديٍ لفترة ساهم خلالها في إنجاز عدد من العقود النفطية الكبرى مع الدول الغربية، كما عمل رئيسًا للجنة الأولمبية الأذربيجانية، ونال عضوية البرلمان.
وفي آخر أيام والده، في تلك الفترة التي تعرض خلالها الرئيس حيدر علييف لوعكة صحية على الهواء مباشرة، أدت، إثر إصابته بقصور في الكلى والقلب، لوفاته بالولايات المتحدة عام 2003، كان إلهام قد ترقى وظيفيًا في مساره كرجل دولة ليصبح رئيسًا للوزراء.
مدفوعًا بتوازن خطاب والده السياسي ونفوذه الشعبي العريض وعبر حزب “أذربيجان الجديدة”، تولى إلهام، نجل حيدر علييف، رئاسة أذربيجان، بعد انتخابات فاز فيها بنسبة أكثر من 70%، ليصبح أحد أصغر الرؤساء في العالم عن عمر يناهز 43 عامًا فقط.
هذه كانت الخطوة الثالثة أما الثانية، فكان ذلك التأهيل العلمي والسياسي لرجل المرحلة الحاسمة في تاريخ الاحتلال الأرميني للأراضي الأذرية.
وخلافًا لوالده الهرم، منح إلهام علييف الدولة الشابة مزيدًا من شبابه، فركز على محاولة علاج مشكلات ولاية علييف الأب الرئاسية، وعلى رأسها إحساس المواطن بجدوى الإصلاحات الاقتصادية.
هنا، لم تعد الدولة إلى الحقبة الشيوعية وتصورات التسوية الاجتماعية بين جميع المواطنين واليوتوبيا الأرضية، لكنه أولى مزيدًا من الاهتمام إلى مشروعات البنية التحتية العملاقة، وإشراك الفئات الأقل مثل مُهجري الحرب وسكان الريف في التنمية، وتحديث الجيش، مرتكزًا في ذلك على عوائد مشروعات النفط والربط الجيواقتصادي العملاقة.
وبحلول عام 2011، أدت الإصلاحات إلى تحقيق معدل نمو تراكمي للناتج المحلي أكثر من 14%.
ضمن نقاط الخطة الإستراتيجية الأكبر كما ذكرنا، هو تحقيق الطفرة الاقتصادية التي تمكن من تحديث الجيش وزيادة اللحمة الشعبية وإيمانهم بقيادتهم الوطنية.
وقد تحقق هذا، ما جعل علييف، ينتقل لتحييد الغرب أكثر، في نفس الوقت الذي كان يوهم الغرب والعالم أنه متمسك بالسلام وأنه الطريق الوحيد لاستعادة أراضي بلاده المحتلة.
فكان من أبرز المشروعات التي أعادت وضع أذربيجان على الخريطة السياسية والاقتصادية في منطقة جنوب القوقاز، مشروع “باكو – تبليسي – جيهان” الذي دُشن يوليو/تموز 2006، بطول أكثر من 1700 كيلومتر، للربط بين الدول الثلاثة، أذربيجان وجورجيا وتركيا، ونقل أكثر من 50 مليون طن نفط خام من بحر قزوين، ومشروع خط أنابيب جنوب القوقاز الذي تم تشغيله نهاية نفس العام، لنقل الغاز الأذربيجاني لأوروبا من حقل “شاه دينيز” العملاق وخط “تاناب” مع تركيا، بالإضافة إلى خط سكك حديد عملاق للبضائع يصل من أذربيجان إلى قارص التركية عبر تبليسي الجورجية.
وبحلول عام 2011، أي قبل نهاية فترته الرئاسية الثانية بعامين، أدت هذه الإصلاحات إلى تحقيق معدل نمو تراكمي للناتج المحلي أكثر من 14%، ومضاعفة الاحتياطي النقدي الأجنبي 25 مرة، وتجاوز الإنفاق على الجيش حاجز الـ3 مليارات دولار أمريكي، بعد أن كان نحو 300 مليون دولار فقط في نهاية حكم والده عام 2003.
رغم هذه القوة الاقتصادية، والتحام المصالح الأوروبية والأمريكية فضلًا عن التركية ومن بعيد قليلًا الروسية، بأذربيجان، إلا أن السير نحو المعركة الحاسمة كان يدرس بمنتهى الدقة.
ففي كل المرات التي بادر الأرمن بانتهاك وقف اطلاق النار، ومحاولات أذربيجان ضبط النفس، كان كل ذلك يمهد لتنفيذ كل نقاط الخطة الإستراتيجية للنصر على العدو، بحيث كان يشيع أحيانًا في الداخل الأذربيجاني أن مسألة استعادة الأرض هي مجرد خرافة أو حلم بعيد المنال، في حين الأنسب والأكثر قبولًا بحسب معطيات الواقع هو التعايش مع الوضع القائم.
وهذا كان يمنح ثقة زائدة للعدو، وربما تهاونًا واستهتارًا في تقدير حقيقة ما يجري داخل أذربيجان.
فتحديث الجيش على امتداد ما يقرب من ثلاثة عقود دون أن يدرك العدو وحلفائه الغربيين ما بات عليه جيش أذربيجان من قوة، لهو دلالة على مدى النجاح الاستخباراتي العسكري وحسن القيادة.
وهذا ما أكد عليه الرئيس إلهام علييف، بقوله: “بالطبع، كنا نستعد للحرب كل هذه السنوات ولم نخفي ذلك أبدًا.. لأن أراضينا كانت تحت الاحتلال وكنا نرى أن الحل السلمي لهذه القضية مستحيل.. لقد اقتنعنا بهذا في السنوات الأخيرة.. لقد أقنعتنا سلوكيات القيادة الأرمينية وخطاباتها وخطواتها الاستفزازية ويكمن أن نقول أنها أقنعت المجتمع الدولي أيضًا بأن الحل السلمي لهذه القضية مستحيل”.
وهذا يعني أنه حتى ترك أو دفع أرمينيا على انتهاك معاهدة وقف إطلاق النار مرارًا كان ضروريًا لإقناع المجتمع الدولي بأن أرمينيا لا تؤمن بالسلام، ومن ثم يكون من حق اذربيجان استعادة أرضها بالحرب.
وهذا ما قاله علييف: “أكد مسئولون رفيعو المستوى في الدول المشاركة في رئاسة مجموعة مينسك مرارًا وتكرارًا أنه لا يوجد حل عسكري للصراع؛ لكننا رأينا أنه لا يوجد حل سلمي للصراع، وإلا كان من الممكن أن تجد هذه المشكلة حلها في غضون 30 عامًا.. إذن لا اهتمام به أو ربما كان وضع اللا حرب ولا سلام هذا يقنع طرفًا ما، وكان هناك من كان مقتنعًا بأن الشعب الأذربيجاني سيعيش في مثل هذا الوضع لمدة 30 عامًا.. كان هناك من اقتنع بأن أراضينا كانت تحت الاحتلال وبدا وكأنها آلية للضغط على أذربيجان.. لقد حاولوا إقناعنا بأن الواقع قد ظهر الآن وأن هذا الواقع موجود منذ 30 عامًا ويجب على أذربيجان أن تتصالح معه.. قلت إننا لن نقبل هذا الوضع أبدًا، وقلت لن نسمح أبدًا بإقامة دولة أرمينية ثانية على أرضنا ولم نسمح بذلك”.
وحول خطة المعركة الحاسمة، أشار الرئيس إلى “أننا حشدنا كل قواتنا واتبعنا سياسة متسقة لسنوات عديدة وقمنا بعمل كبير على الساحة الدولية وفي المجال الاقتصادي وفي العلاقات مع دول الجوار وفي تنفيذ المشاريع الإقليمية.. وبالطبع، قمنا بأعمال كبيرة لإكمال بناء الجيش.. في نفس الوقت نشأ جيل شاب وطني ومحب للوطن.. لقد حرر هذا الجيل أراضينا”.
وقال رئيس الجمهورية أيضًا: “عندما خاطبت الشعب الأذربيجاني في سهل “جيدير” (لسباق الخيول) في شوشا، قلت إنه عندما توليت السلطة في عام 2003 كان الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم اليوم بين 25 و30 عامًا أطفالًا.. لقد ربيناهم بروح الوطنية والولاء للدولة وحرروا أرضنا من المحتلين.. بالإضافة إلى ذلك، فإن الشباب الذين لم يسبق لهم زيارة الأراضي المحتلة؛ ولكنهم كانوا في الأصل من تلك الأراضي، قاتلوا كالأسود من أجل أراضيهم.. توحد كل شعب أذربيجان وممثلو كل الشعوب التي تعيش في أذربيجان بقبضة واحدة، وهزمنا العدو وحررنا أراضينا من الاحتلال.. هذا حدث تاريخي.. لم يكن هناك مثل هذا الانتصار الرائع في تاريخ أذربيجان.. لقد أظهرت أذربيجان قوة وإرادة شعبنا للعالم أجمع.. مرة أخرى، رأى العالم كله أنه إذا كانت هناك إرادة وإذا كانت هناك قوة وإذا كانت هناك وحدة للشعب والقوة وإذا كان هناك تصميم وشجاعة، فإن العدالة تجد مكانها. ولقد أثبتنا ذلك”.
هنا يتضح جليًا جميع خطوط الخطة الإستراتيجية لتحرير التراب الوطني لأذربيجان، علاقات مع دول وخداع عسكري، وتصريحات صحفية، وتوريطات عسكرية، وإنهاك للطاقة والرغبة الأرمينية، في الوقت الذي يتم إعداد جيل شاب تحت قيادة المهجرين من الأراضي المحتلة ليكون عندهم من الغل نحو عدوهم وحسن الإعداد ما يمكنهم من حسم المعركة لصالحهم، وهذا ما تم، وأكده الرئيس في هذه العبارات: “طيلة عشرين عامًا، جرَّت الطغمة العسكرية من كوتشاريان – سركسيان أرمينيا إلى الهاوية وأدت إلى أزمة.. كادت البلاد أن تفقد استقلالها وبدت كأنها مستعمرة.. يعود السبب الرئيسي لذلك إلى سياسة العدوان.. لأنهم كلما أصروا في إبقاء أراضينا تحت الاحتلال، زادت تبعيتهم.. لقد عزلنا أرمينيا باستمرار عن جميع المشاريع الدولية والإقليمية.. كانت سياستنا هي زعزعة أرمينيا اقتصاديًا وعزلها اقتصاديًا. لم أخفيها أبداً وقلت مرارًا وتكرارًا وبصراحة أننا سنواصل هذه السياسة حتى تسحب أرمينيا قواتها المسلحة من أراضينا.. بعد ذلك قد يكون هناك تعاون في المنطقة وقد يكون هناك تغيير في سياستنا.. للأسف، لم يستمع الطغمة الأرمينية العسكرية السابقة ولا الحكومة التي وصلت إلى السلطة في 2018 إلى دعواتنا.. لو كانوا قد استمعوا في الوقت المناسب، لما كانوا في مثل هذا الوضع الرذيل اليوم”.
خطة استباقية
ورغم تحقيق النصر المؤزر، إلا أن العين الأذرية لا تزال يقظة ومتابعة لتحركات العدو الأرميني وحلفائه، وتم إعداد الخطة الاستباقية لأي نية للغدر وتجاوز منجزات حرب الـ44 يومًا وبيان 10 نوفمبر.
فأشار الرئيس إلهام علييف إلى أن حلفاء أرمينيا ورغبتهم في تحديث الجيش الأرميني، وتساءل ساخرًا للمرة الثانية: “لأي غرض؟ ضد من؟”.
وأَضاف: “لقد انتهت الحرب.. إذا كان شخص ما يعيش بأفكار انتقامية، فسوف يرى القبضة القوية وأنها في مكانها الصحيح ولا ينبغي لهم اختبار صبرنا.. لقد انتهى الجيش الأرميني، ولم يعد موجودًا ويجب ألا يكون موجودًا.. لا ينبغي أن يكون هناك جيش في مثل هذه الدولة الفاشية.. وشدد علييف، على أنه لن يسمح أبداً بأي تهديد ضد بلاده أو بأن يشعر مواطنو أذربيجان الذين سيعودون للأراضي المحررة بأي خطر.
لذا استبق عبقري السياسة والقيادة إلهام علييف، هذه المساعي الخبيثة بإحياء قوة جيش الاحتلال، بخطة إعمار سريعة وعلى امتداد كل الأراضي المحتلة.
فبدأ بالفعل بناء مطار فضولي، بحسب تصريحات الرئيس، ويتم استكمال عملية إزالة الألغام فيه وسيتم تشغيل المطار، على أي حال ومدارج الهبوط والاقلاع وأنظمة الملاحة التي ستضمن تشغيل المطار في أقرب وقت ممكن.
كما سيكون المطار مطارًا دوليًا.. وستكون المدارج قادرة على استيعاب جميع أنواع الطائرات، بما في ذلك الطائرات الثقيلة وطائرات الشحن.
وقال رئيس الجمهورية الآذري: “إنه إذا سارت الأمور وفقًا للخطة، فسيتم تشغيل المطار في أوائل الخري، وسيسمح لنا ذلك باستخدام المطار لإعمار الإقليم في نقل البضائع التي سنستلمها من الخارج، وكذلك لسهولة تنقل مواطني الدول المجاورة إلى شوشا”.
وأضاف علييف قائلًا: “يتم بناء طريقين سريعين إلى شوشا في نفس الوقت مع بناء المطار.. سُمي أحد هذين الطريقين بـ”طريق النصر”.. سارت القوات الخاصة الأذربيجانية بهذا الطريق بالذات عبر الغابات والوديان ووصلت إلى شوشا.. سيوفر الطريق الآخر الذي يمر عبر سهل منخفض نسبيًا وصولًا مباشرًا من المطار.. لذلك، أنا على ثقة من أن الأذربيجانيين الذين يعيشون في الخارج، وكذلك مواطني البلدان الأخرى ستتاح لهم مثل هذه الفرصة.. يجب أن أقول إن خططنا لبناء المطارات لا تقتصر على فضولي.. نخطط في بناء مطارات في لاتشين وزانكيلان، مع الأخذ بالاعتبار برنامج إعادة البناء لهذه الأراضي وأن زانكيلان ستصبح مركزًا لوجستيًا مهمًا للغاية”.
واشار الرئيس إلى أن إحدى نقاط البيان الثلاثي تتمثل في فتح ممر يربط بين أذربيجان وأرمينيا وجمهورية ناختشيفان ذات الحكم الذاتي، وكذلك بين أذربيجان وتركيا وروسيا وتركيا وقال: “لذلك، لدينا خطط كبيرة وسنقوم بتنفيذها.. هذا العام، تمت الموافقة على برنامج الاستثمار الخاص الكبير إلى حد ما لإعادة إعمار الأراضي.. نقوم بتسديد الدفعات الأولى على أساس العقود المبرمة”.
أرمينيا اليوم
وأشار الرئيس إلى أن أرمينيا في حالة أزمة حاليا، وقال: “لا أريد التعليق على وضعهم الداخلي”.
فمن حيث المبدأ، نحن لا نتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، خاصة في وقت حساس.. لكن لم ولن تتغير عواقب الحرب.. يجري تنفيذ البيان الموقع في 10 نوفمبر ويتوجب تنفيذه بالكامل.. وقد تم بالفعل تنفيذ معظم نقاط هذا البيان؛ لكن هناك قضايا قيد النقاش الآن، وآمل أنه على الرغم من الوضع في أرمينيا، سيتم تنفيذ البيان، وإلا فإن أرمينيا ستجد نفسها في وضع أكثر تعقيدًا.. أي أن خيار أرمينيا ليس لديها خيار.
واضاف: “يجب ان يتقبلوا الحقائق الجديدة ويأخذوها في الاعتبار”.
ورغم الانشقاقات الداخلية في أرمينيا، والوضع الاجتماعي والاقتصادي السيء؛ لكن على ما يبدو أن القيادة الأذرية لن تنخدع بذلك وستظل دائمًا يقظة حتى تكون مستعدة دائمًا لتغريم عدوها وإذلاله حال فكر أو هم بارتكاب أي حماقة ضد أراضي أذربيجان وشعبها.