للمرة الثانية، برأ مجلس الشيوخ الأميركي، وكما كان متوقعا، دونالد ترامب في المحاكمة البرلمانية الثانية له خلال أقل من عامين، وهو أول رئيس في التاريخ الأميركي يخضع فيها رئيس أميركي لمثل هذه المحاكمة مرتين. 43 عضوا جمهوريا في مجلس الشيوخ صوتوا بتبرئة ترامب على أساس واه جدا وهو أن الدستور الأميركي لا يسمح بمحاكمة الرئيس الأميركي بعد خروجه من السلطة، وهي مسألة يختلف عليها الخبراء الدستوريون الأميركيون. ينص الدستور على تأييد غالبية فيه، أي 67 عضوا، لإدانة الرئيس في محاكمة برلمانية. بالطبع، السبب الحقيقي وراء وقوف هذا العدد الكبير من الجمهوريين في مجلس الشيوخ خلف ترامب هو إما أنهم لا يريدون الاعتراف بأن ترامب هو المسؤول عن الهجمة على الكونغرس يوم 6 يناير الماضي حين اقتحمت مجموعة من رعاع ترامب المسلحين الكونغرس وعاثوا فيه تدميرا وتخريبا وقتلا في محاولة مكشوفة، حقيرة، وغير مسبوقة لوقف مصادقة الكونغرس على فوز منافسه الديمقراطي الرئيس جو بايدن. أو أنهم يعترفون بذلك في قرارة أنفسهم ولكنهم مرتعبون من قاعدته الصلبة في الحزب الجمهوري التي هي أقرب إليه منها إلى غالبيتهم. باختصار، وضع هؤلاء مصالحهم السياسية فوق مصالح البلاد والدستور وفتحوا الباب على مصراعيه أمام إمكانية قيام ترامب، أو أي رئيس آخر بتكرار ما فعله ترامب قبل أيام من خروجه مهزوما، ذليلا، صغيرا وفاقدا لأي احترام من غالبية الأميركيين من البيت الأبيض يوم 20 يناير الماضي. باختصار، حاول ترامب القيام بانقلاب على الشرعية الأميركية، ولكنه فشل، وهو رغم تبرئته في مجلس الشيوخ، فإنه لم يتخلص بالكامل من متاعبه القانونية بسبب الهجمة على الكونغرس أو غيرها. سنرى.
وفي حين أن ترامب ربح هذه الجولة، فإن الخاسر الأكبر بعد الشعب والدستور الأميركيين هو الحزب الجمهوري، حزب أبراهام لنكولن ورونالد ريغان. فقد أثار ما حدث في الكونغرس وفشل المحاكمة البرلمانية في محاسبة هذا المتغطرس أسئلة أكثر مما أجاب عنها حول الوجهة التي سيتجه إليها الحزب الجمهوري الآن، خصوصا بعد الخطاب الذي ألقاه الزعيم الأبرز للجمهوريين الآن، ميتش مكونيل، رئيس الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ بعد انتهاء المحاكمة. ورغم أن مكونيل لم يصوت لصالح إدانة ترامب، فإنه وجه في كلمته حينئذ، انتقادات لاذعة وصريحة لترامب، وهي المرة الثانية التي يفعل فيها ذلك بعد الانتخابات الأميركية. وقال مكونيل: “لا شك في أن الرئيس ترامب مسؤول عمليا وأخلاقيا عن إثارة أحداث ذلك اليوم.” واضاف “اعتقد أن الاشخاص الذين اقتحموا هذا المبنى تصرفوا بناء على رغبات وتعليمات رئيسهم. وكان اعتقادهم هذا نتيجة متوقعة لتصاعد التصريحات الكاذبة، ونظريات المؤامرة، والمبالغة الطائشة التي ظل الرئيس المهزوم يرددها بأعلى صوت ممكن من أكبر مكبر صوت على كوكب الأرض.”
وقال بيل كاسيدي، أحد أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين السبعة الذين صوتوا لإدانة ترامب، إن سلطة ترامب على الحزب سوف “تتضاءل”. بالتأكيد هو يأمل ذلك، ولكن الحزب الجمهوري في ولايته لويزيانا أصدر بيانا بعد وقت قصير من تصويته مع إدانة ترامب وبخ فيه كاسيدي. ترامب رد على مكونيل فورا ووصفه أوصافا بذيئة، ما يفتح الباب أمام انشقاق علني في أوساط الحزب الجمهوري، بين الغالبية التي تؤيد ترامب (لا أقل من 70 بالمئة) والأقلية التي تؤيد أمثال مكونيل وكاسيدي وليز تشيني، إبنة نائب الرئيس الأميركي الأسبق ديك تشيني وعضو الكونغرس الجمهوري عن ولاية وايومنغ التي صوتت هي الأخرى مع الديمقراطيين في الكونغرس لتقديم ترامب لمحاكمة برلمانية ثانية (لا تزيد نسبة هؤلاء في الحزب عن 25 بالمئة.)
يرى البعض في الحزب أن ترامب يمثل عبئًا كبيرًا على الحزب الجمهوري وهو سيصبح أكثر سمية مع مرور الوقت. ترامب كان أول رئيس منذ العام 1932 يشرف على خسارة البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس للحزب المعارض في فترة ولاية واحدة. حصل جو بايدن على أعلى نسبة تصويت شعبي من أي منافس رئاسي منذ العام 1932 في أعلى نسبة مشاركة في انتخابات أميركية عامة منذ العام 1900، حيث حصل على أكثر من 7 ملايين صوت من ترامب.
إذن ما الذي قد يحمله المستقبل للحزب الجمهوري؟ يحظى ترامب بقاعدة ضخمة وحيوية ومقتنعة ومؤيدة له في الحزب الجمهوري، وهي تتحكم في الآلية الشعبية للحزب. كما أنها تمثل كتلة تصويت أساسية هائلة. وهناك فصيل أصغر بكثير ولكنه رفيع المستوى يريد ترك ترامب وراءه، وهو فصيل يتضمن حضورا كبيرا بين المشرعين والممولين والمعلقين الإعلاميين من الجمهوريين. ما يحصل الآن هو أن هناك حربا مفتوحة بين الجانبين بدأت تتكشف فصولها تباعا في الآونة الأخيرة، وهي حرب ستزداد ضراوة في الفترة المقبلة. وهو ما يهدد مستقبل بقاء الحزب وحيويته للفوز في انتخابات مقبلة، ويهدد بعدم تمكن الحزب من استعادة السيطرة على أي من مجلسي الكونغرس في انتخابات العام 2022 (يجب انتخاب كل أعضاء مجلس النواب الـ 435 كل سنتين، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ الـ 100 كل سنتين أيضا.)
في الأسابيع القليلة الماضية، هددت شخصيات من الجانبين بتشكيل أحزاب جديدة إذا لم تتمكن من السيطرة على اتجاه الحزب الجمهوري الحالي. ولكن سرعان ما تبخرت هذه التهديدات. أكثر ما يمكن أن يحققه حزب محافظ جديد هو الإضرار بالآفاق الانتخابية للحزب الجمهوري، وهو أمر ربما كان ترامب قد فكر فيه في مواجهة تهديد المحاكمة البرلمانية التي كان يواجهها منذ أواخر شهر نوفمبر الماضي. النظام السياسي الأميركي يسمح بتعددية الأحزاب، ومع ذلك، فإن التجربة التاريخية تشير بصورة لا لبس فيها أن الأحزاب الثالثة لا مكان لها في هذا النظام. وبالتالي، فحتى الأشخاص الذين يشعرون بالغربة عن أحزابهم هم أفضل حالًا إذا واصلوا البقاء والقتال من أجل السلطة في واحد من الحزبين الرئيسيين، الجمهوري أو الديمقراطي، بدلاً من تشكيل حزب جديد لا فرصة أمامه للاقتراب أبدًا من السلطة. مرت أكثر من 160 عامًا منذ أن دمرت الانقسامات حول العبودية والحرب الأهلية الأميركية التي اندلعت بسببها الأحزاب الرئيسية في الولايات المتحدة، ونجا من تلك النزاعات الحزبان الجمهوري والديمقراطي اللذان ظلا يسيطران على النظام السياسي الأميركي حتى يومنا هذا.
لا أحد يعرف حتى الآن الدور الذي سيلعبه ترامب في السياسة الجمهورية المستقبلية. يشير هجومه الأخير على مكونيل إلى أنه يريد على الأقل الاستمرار في معاقبة الجمهوريين الذين يعتبرهم غير موالين. احتمال ترشح ترامب مرة أخرى للانتخابات الرئاسية في 2024 سيكون وضعا محرجا للجمهوريين التقليديين. فهم من جهة يدركون أن ترامب قوي في أوساط القاعدة الصلبة للحزب وهو قادر على استقطاب العديدين للذهاب إلى صناديق الاقتراع، وهم من جهة أخرى يعرفون أن ترامب أصبح بضاعة غير رائجة في السوق الانتخابي الأميركي؛ فهو فعلا جعلهم يخسرون غالبيتهم في مجلس النواب في العام 2018، وغالبيتهم في مجلس الشيوخ والبيت الأبيض في انتخابات العام 2020.
فرص ترامب في الفوز في انتخابات رئاسية مستقبلية هي فرص متدنية جدا بالفعل منذ الآن. تذكروا أن الرجل يتمتع بتأييد 75 بالمئة فقط من أعضاء الحزب الجمهوري الذي لا يمثل سوى 30 بالمئة من الناخبين الأميركيين، ما يعني أنه يتمتع بتأييد لا أكثر من 30 إلى 40 مليون ناخب. لا أحد يستطيع الفوز بانتخابات الرئاسة الأميركية بهذا العدد، مع العلم أن المستقلين هم أكبر الكتل في جمهرة الناخبين الأميركيين، والمستقلون بغالبيتهم تخلوا عنه في الانتخابات الأخيرة، ويتخلون عنه بأعداد أكبر بعد هجمة الكونغرس الشنيعة الشهر الماضي.
ترامب أصبح أكثر من مجرد زعيم سياسي لدى قاعدته الجمهورية، بل هو صار زعيم طائفة دينية متطرفة لا أكثر، رغم أن الرجل لا يؤمن بعمق بأي ديانة أو أيديولوجية أو استراتيجية سوى واحدة: أن يظل متربعا على قمة هرم السلطة بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الحزب الجمهوري، أو حتى أميركا نفسها. وإذا ما تغلب الفريق الذي يترأسه ترامب في الحزب الجمهوري، فتوقعي المتواضع هو، وكما قلت سابقا، أن يواصل هذا الحزب المحافظ المعتدل العظيم تدحرجه السريع ليتحول إلى حزب يميني، شعبوي، عنصري، قومي على شاكلة الأحزاب القومية الشوفينية في أوروبا. وحينها سيكتب عليه الفناء التدريجي، فيكون ترامب قد دمره وقعد بمؤخرته الكبيرة على جثته. وربما كان هذا ما يعنيه شعار ترامب “أن نجعل أميركا عظيمة.”