لماذا غاب الشرق الأوسط عن أول خطاب خارجي لبايدن؟!
مفيد الديك
إعلان ودبلوماسى أمريكى سابق
يوم الخميس الماضي، 4 شباط/فبراير، ألقى الرئيس الأميركي جو بايدن أول خطاب له عن السياسة الخارجية في وزارة الخارجية الأميركية. وركزت كلمات بايدن على بعض قضايا السياسة الخارجية الملحة للولايات المتحدة، مثل الوضع في بورما والحرب في اليمن، إلى جانب العديد من التحديات طويلة الأمد للولايات المتحدة، مثل السياسة تجاه الصين وروسيا وسياسة الولايات المتحدة الخاصة باستيعاب اللاجئين الأجانب في أراضيها.
غير أن أهم ما ميز خطاب بايدن الأخير هو أن الرئيس الأميركي الجديد ألغى عمليا كل أو غالبية سياسات سلفه دونالد ترامب في ميدان السياسة الخارجية للولايات المتحدة، الذي لم تكن لديه فعليا سياسة خارجية في أية منطقة أو موضوع. خلال أسبوعين فقط، ألغى بايدن عمليا وعبر أوامر تنفيذية لا تحتاج لموافقة الكونغرس، العديد من سياسات ترامب الفجة وغير المدروسة وغير القائمة على أساس الأمن القومي الأميركي. فهو أعاد انضمام الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، وأعاد علاقة الولايات المتحدة بمنظمة الصحة العالمية ودفع حصتها من تمويل ميزانيتها، كما ألغى كل سياسات ترامب الخاصة بالهجرة – فقد ألغى قرار ترامب الخاص بمنع مواطني سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة، وأعلن عن رفع عدد اللاجئين الذين ستستوعبهم الولايات المتحدة من 15 ألفا إلى 125 ألفا، وهو رقم حتى أكبر من الأرقام التي كانت تسمح بها إدارة أوباما.
لكن ربما كانت القضية الأهم التي أعلن عنها بايدن في خطاب وزارة الخارجية هو قراره وقف الدعم الأميركي للعمليات العسكرية التي يقوم بها التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن. وهذا القرار ينطوي على ثلاثة أبعاد مهمة:
أولا، وقف بيع الأسلحة والذخائر التي يمكن أن يستخدمها التحالف العربي بقيادة السعودية في حربه في اليمن، التي وصفها بايدن بالكارثة الإنسانية.
ثانيا، وقف التعاون الاستخباراتي الأميركي مع التحالف العربي الذي كان في غاية الأهمية للتحالف لناحية تحديد الأهداف وتقييم نتائج عمليات القصف الجوي للتحالف.
ثالثا، تعيين الدبلوماسي الأميركي المخضرم تيم لندركنغ مبعوثا أميركيا لشؤون اليمن، ما يدلل على بدء انتهاج سياسية أميركية حقيقية في اليمن تقوم على وقف الحرب في تلك الدولة وإطلاق مسار دبلوماسي بين الأطراف المتنازعة فيها يقود إلى تسوية سياسية بينها، ملغيا تماما سياسة ترامب التي لم تكن غائبة عن تلك الساحة تماما فحسب، بل كانت تمنح شيكا على بياض لقوات التحالف العربي في اليمن، ما أدى إلى أكبر أزمة إنسانية في التاريخ المعاصر حسب تقارير كل المنظمات الدولية.
ورغم أن بايدن تحدث في خطابه بإسهاب عن الانقلاب في بورما (ميانمار) وعن سياسات الولايات المتحدة الجديدة تجاه موسكو وبكين، خصوصا أن سياسات سلفه ترامب مع تلك الدولتين كانت تتسم بسذاجة غير مسبوقة، فإن بايدن لم يذكر في خطابه الأول عن السياسة الخارجية منذ توليه منصبه: البرنامج النووي الإيراني، أو “اتفاقات إبراهيم” لتطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية مع إسرائيل في الأشهر القليلة الأخيرة من عهد ترامب، أو إسرائيل، أو الفلسطينيين.
هذا الخطاب، وهو وإن كان الأول فإنه لن يكون الأخير لبايدن في الشؤون الخارجية، كشف ما لم يعد سرا:
الشرق الأوسط كله كمنطقة يحتل جزءا ضئيلا من المقعد الخلفي لأجندة بايدن الخارجية، وستحل محل هذه المنطقة آسيا. وآسيا سوف تأخذ المقعد الخلفي لوباء كورونا والأزمة الاقتصادية العاصفة التي أدى إليها الوباء والتي تركز عليها إدارة بايدن كأولوية. إذن، وباختصار شديد، فإن مزيج الوباء، وقضية التغير المناخي، وقضايا الصين، وروسيا – كل هذه هي عوامل أدت إلى وضع الشرق الأوسط في المقعد الخلفي لسياسة بايدن الخارجية.
ولكن الاستثناء الوحيد لذلك هو المصلحة الواضحة لإدارة بايدن في معالجة التهديد النووي الإيراني. إدارة بايدن تحدثت بصورة بارزة عن أهمية استئناف المفاوضات مع إيران لإعادة انضمام الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الإيراني (5+1)، وإن بشروط جديدة. وربما كان السبب وراء عدم تطرق بايدن في خطابه بوزارة الخارجية عن إيران ليس هو أن هذه القضية ليست مهمة بالنسبة إلى الإدارة الجديدة، بل لأن هذه الإدارة لم تنته بعد من وضع الإطار السياسي الجديد للإدارة لمعالجة هذه القضية المهمة. فقد عين وزير الخارجية الأميركي الجديد توني بلينكن مبعوثا جديدا للشؤون الإيرانية، روب مالي، وهو سياسي وخبير سياسي أميركي مخضرم شارك في مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني في عهد إدارة أوباما. وسوف نرى خلال الأسابيع القليلة المقبلة بيانا مهما عن السياسة الأميركية تجاه إيران وملفها النووي، ليس بالضرورة على المستوى الرئاسي، ولكن ربما على مستوى وزير الخارجية.
أما قضية الصراع العربي الإسرائيلي، فالاعتقاد الواسع بين خبراء السياسية الخارجية في الولايات لمتحدة هو أن هذه القضية ستعود إلى الفرن الخلفي في عهد إدارة بايدن، أو إلى ما يمكن تسميته بوضع ما قبل الوضع الراهن – status quo ante. لا أريد أن أصدمكم، ولكن علينا أن نكون واضحين هنا حسب المتوفر من المعلومات والإشارات الصادرة عن إدارة بايدن بشأن نواياها تجاه هذه القضية المركزية، فإن هذه الإدارة لن تلغي بعض الإجراءات التي قامت بها إدارة ترامب، ولن تطرح مبادرات سلام جديدة، ولن تعين مبعوثا خاصا لقضية سلام الشرق الأوسط كما فعل غالبية الرؤساء الأميركيين منذ قيام إسرائيل العام 1948.
غير أن ذلك لا يعني أن هذه الإدارة لن تقوم بتحركات مهمة حيال هذه القضية، وهي بدأت في القيام بذلك بالفعل، لإلغاء غالبية سياسات ترامب وصهره جاريد كوشنر وسفيره المستوطن ديفيد فريدمان، الذي كان أقرب سفير أميركي في التاريخ لليمين الإسرائيلي ورئيسه بنيامين نتنياهو وحركة الاستيطان الإسرائيلية – إلى حد أنه يعتزم التقدم بطلب الحصول على الجنسية الإسرائيلية قريبا.
دعوني أوضح أن الإدارة الجديدة لن تقوم بالتالي في معالجتها للصراع العربي الإسرائيلي:
· لن تلغي قرار ترامب بالاعتراف بالقدس ونقل السفارة الأميركية إليها من تل أبيب، لأسباب لا يتسع المجال لشرحها هنا.
· في حين أن هذه الإدارة لن تواصل التركيز على الضغط على، وابتزاز، الجانب العربي لمواصلة حركة التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، فإنها لن تعتبر ذلك بديلا لمفاوضات مباشرة لحل المسألة الفلسطينية، ولكنها لن تلغي اتفاقات التطبيع التي رعتها إدارة ترامب بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية المتحدة، البحرين، السودان والمغرب في أشهرها الأخيرة العام الماضي.
· لن تتراجع هذه الإدارة عن اعتراف إدارة ترامب بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة، وإن كان التراجع عن هذا القرار سيكون أسهل من إلغاء الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، لأسباب لا يتسع المجال لشرحها هنا.
· لن تعين إدارة بايدن مبعوثا خاصا لقضية الشرق الأوسط – على الأقل ربما ليس الآن، وقد تلجأ إلى تعيين مثل هذا المبعوث لاحقا إذا ما شعرت أن هناك ولو متسعا ضئيلا من النافذة لإحداث حلحلة في عملية السلام العربية الإسرائيلية المجمدة منذ سنوات.
· لن تطرح إدارة بايدن مبادرة سلام جديدة لمحاولة حل الصراع العربي الإسرائيلي – وهو أيضا أمر لا يتسع المجال لشرحه هنا، وربما سأتناوله في مقال آخر أخصصه لهذا الموضوع.
وفي المقابل، هذا ما قامت به، أو ستقوم بهد إدارة بايدن قريبا لإلغاء غالبية أفعال ومواقف إدارة ترامب تجاه الفلسطينيين:
· تجاهل اتفاقات التطبيع العربية مع إسرائيل واعتبارها ليست بديلا عن المفاوضات المباشرة بمشاركة فلسطينية أساسية.
· مع تأكيد الإدارة الجديدة على علاقتها الداعمة لإسرائيل تاريخيا، فإن هذه الإدارة ستعود إلى لعب دور “شبه موضوعي” في الصراع العربي الإسرائيلي وستبتعد كثيرا عن نتنياهو والتماهي معه كما فعل ترامب.
· إعادة العلاقة التي قطعتها إدارة ترامب مع السلطة الفلسطينية لرفض السلطة لسياسات ترامب الأحادية ضد الفلسطينيين.
· إعادة التمويل الأميركي الإنساني والأمني للسلطة الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني الفلسطينية، وهو تمويل يصل إلى عدة مئات الملايين من الدولارات سنويا.
· إعادة المساهمة الأميركية المالية لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التي تقدر بأكثر من 350 مليون دولار سنويا.
· إعادة فتح مكتب السلطة الفلسطينية في واشنطن، الذي لا يحظى بصفة دبلوماسية.
· إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، التي يؤمل أن تتحول إلى سفارة أميركية في الدولة الفلسطينية لدى تأسيس هذه الدولة.
· العودة إلى اعتبار المستوطنات الإسرائيلية كيانات غير قانونية في الأراضي الفلسطينية، على عكس إدارة ترامب التي بدأت باعتبارها جزءا من أراضي إسرائيل كما تجلى ذلك في أول زيارة لوزير خارجية أميركي لمستوطنة في الصفة الغربية، وزير خارجية ترامب مايك بومبيو.
· إعادة التأكيد على أن حل المسألة الفلسطينية يجب أن يكون على أساس الدولتين وقرارات الشرعية الدولية.
أخيرا، دعوني أقول إن الشرق الأوسط غائب عن أجندة بايدن للسياسة الخارجية إلى أن يستعيد العالم العربي بعضا من عافيته ويضع بايدن أمام مسؤولياته كزعيم أكبر وأقوى دولة على وجه الأرض، دولة لن يكون هناك سلام في الشرق الأوسط من دون مشاركتها الفاعلة. فهل يحدث ذلك قبل فوات الأوان؟